التغلغل الإيراني في البوسنة: أدواته وتحدياته

 

خلاصة

يبدو أنّ خيار تغيير البنية الديموغرافية البوسنية عبر عمليات التشييع، الوسيلة الأقل مواجهة حالياً، والأقل كلفة سياسياً، إلى حين بناء حواضن قادرة على حمل المشروع الإيراني في البلقان، في ظلّ احتمال تجدّد النزاعات الأهلية على المدى المتوسط.

إلى جانب بناء علاقات شخصية مع قيادات بوسنية، عوضاً عن بناء علاقات مؤسساتية واسعة، حيث لم تتجاوز العلاقات المؤسساتية العلنية إطار الزيارات المتبادلة، دون كثير نتائج، رغم التغلغل الذي حصل في تسعينيات القرن الماضي.

ويعيق الحضور الروسي انضمام البوسنة إلى الاتحاد الأوروبي ويعيق توسّع الدور الإيراني، عدا عن أنّ انضمام البوسنة (بعيد الاحتمال) إلى الاتحاد الأوروبي سيعيق هو كذلك الأدوار الإيرانية، إلى جانب أنّ المنطقة هي منطقة نفوذ تركي وغربي، وإسرائيلي مؤخراً.

 

القسم الأول: قواعد التغلغل الإيراني في البوسنة، والإطار الدبلوماسي للعلاقات الثنائية

 

"أثناء القتل والتهجير الذي كان يتعرض له المسلمون في البوسنة علي يد الصرب، أرسلت إيران مبعوثاً، وقام المبعوث الإيراني بتقديم المساعدة من غذاء ودواء ومال وسلاح، بشرط واحد، وهو السماح للإيرانيين بنشر التشيع بين المسلمين البوسنيين". وكان الرد: "لن نبيع الآخرة من أجل الدنيا، ولن نبيع إسلامنا من أجل حفنة من المساعدات". مع التأكيد على أن المبعوث الإيراني ذهب خائباً بعد هذه المحادثة القصيرة.

مقتطف من كلام علي عزت بيغوفتش

 

طالما شكّلت هذه العبارة دليل تحليل للعلاقات البوسنية-الإيرانية، والبوسنية-العربية، غير أنّه مما سيبدو لاحقاً، فإنّ الغرض من هذا التصريح، هو لإرضاء شرائح من البوسنيين والداعمين العرب لا أكثر، حيث يبدو أنّ بيغوفتش، وعديد من القيادات البوسنية، ومنذ تسعينات القرن الماضي حتى اليوم، مرتبط بشكل شخصي مع إيران.

ويقوم الحضور الإيراني في البوسنة والهرسك على محدّدين رئيسين:

-      المحدِّد الطبيعي (علاقات دبلوماسية واقتصادية طبيعية بين الدولتين)، وهو محدّد ما يزال ضعيفاً، ولا يتجاوز بضع مذكرات تفاهم وزيارات متبادلة.

-      المحدِّد الديموغرافي، وهو الذي تشتغل عليه إيران داخل البوسنة (كما عموم توجهاتها في الدول التي تتغلغل فيها)، من خلال تغيير البنى الديموغرافية (التشييع)، وتحويل هذه البنى إلى أدوات نفوذ لاحق. وقد استندت في ذلك إلى تأسيسٍ تاريخيٍّ بدأ منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين.

 

أولاً-التأسيس التاريخي للتغلغل الإيراني:

بدأ الحضور العلني الإيراني في البوسنة، مع إرسال 50 مدرباً عسكرياً عام 1992، من ميليشيا حزب الله وحركة التوحيد الإسلامية اللبنانية (ذراع إيراني). ووفق القيادي الإخواني المصري إبراهيم صلاح، فإنّ تنسيقاً تمّ في طهران بين الإيرانيين والمافيا الإيطالية وشخصيات بوسنية لإرسال السلاح إلى البوسنة (1).

قامت إدارة بوش الأب في سبتمبر 1992، بالتنسيق الاستخباراتي مع القوات الكرواتية، بمصادرة 747 شحنة أسلحة إيرانية متجهة إلى البوسنة أما إدارة كلينتون فقد نسّقت مع الإيرانيين بهذا الشأن، وخصوصاً حين تجاهل كلينتون الحظر المفروض، وسمح للإيرانيين بتوريد السلاح، رغم أنّ الكونغرس كان يضغط لرفع هذا الحظر أساساً، لكن إدارة كلينتون فضّلت التعامل مع الإيرانيين، إلى أن استطاع الكونغرس إصدار قانون برفع حظر مبيعات الأسلحة من جانب واحد، والذي حاول كلينتون إعاقته. وفي تلك الأثناء، كانت إيران هي المورد الرئيس للسلاح إلى البوسنة (إلى جانب السعودية والكويت وباكستان وماليزيا وتركيا). غير أن إدارة كلينتون عادت للحدّ من النفوذ الإيراني في البوسنة مع عام 1996، ونصحت الحكومة البوسنية بشكل رسمي بأنّ: "انخراطهم مع إيران في تسليح الجيش البوسني، سيضرّ باستقرار المنطقة، وبعلاقات البوسنة مع الولايات المتحدة". لكن الحكومة البوسنية لم تستجب لتلك التحذيرات. وتمكّنت إيران بالمحصلة من إرسال 3000-4000 شخص للقتال في البوسنة (حزب الله اللبناني)، استمر 200-300 منهم في البوسنة بعد انتهاء الحرب. وقد ألقت القوات الغربية القبض على مدربين إيرانيين وأسلحة وملاجئ ومراكز تدريب إيرانية في البوسنة عام 1996. ووفق لصحيفة نيويورك تايمز عام 1996، فإن الأدلة تؤكد استقبال إيران عناصر بوسنية وتدريبها داخل الأراضي الإيرانية (2).

وقد أقرّ زعيم ميليشيا حزب الله: حسن نصر الله، في خطابه (مارس 2016)، بمشاركة ميليشيات حزبه في الحرب في البوسنة، وتحديداً عبر أحد قياديه (علي فيّاض)، والذي قُتِل مؤخّراً في سورية.

كما تمّ تأكيد مشاركة فيلق القدس، عبر تزويده المقاتلين المسلمين بالأسلحة، بموافقة أمريكية ضمنية، وتشير عدة تقارير إلى أنّ قاسم سليماني كان مسؤولاً مباشراً عن عمليات فيلق القدس في البوسنة (3).

وقد تأكدت هذه المعلومات من خلال النشرة الصحفية (تقرير)، التي صدرت عن الكونغرس الأمريكي في 16/1/1997، ونشرها globalresearch.ca في 21/9/2001. وتتضمّن كذلك (4):

-      تواصل بيغوفتش مع إيران (وليبيا) عام 1991 قبيل الحرب. عدا عن أنّه هو ذاته عضو في منظمة "فدائيان إسلام" الإيرانية. وقد سعى بعد عام 1979 (مع وصول خميني للسلطة) إلى تأسيس جمهورية إسلامية بالتنسيق مع خميني، وأدّى ذلك إلى سجنه من قبل النظام الشيوعي اليوغسلافي عام 1983.

-      أتى الدعم الأمريكي للتدخل الإيراني، بتنسيق بين الولايات المتحدة وكرواتيا كذلك، بما يشمل شحنات الأسلحة، وحركة الأفراد من وإلى البوسنة (الحرس الثوري وحزب الله والجهاديين). ضمن ما عرف "بضوء أخضر" أمريكي تجاه إيران.

-      نسّق السفير الأمريكي في كرواتيا مع عمر باسيتش، وسيط إيران في المنطقة، لتعزيز نشاطات إيران.

-      بعد "الضوء الأخضر"، تغلغلت عناصر إيرانية داخل الحكومة البوسنية، وأقامت علاقات وثيقة مع القيادات البوسنية القائمة آنذاك، واللاحقة المحتملة. كما اندمجت عناصر الحرس الثوري بأسلحتها في بنية الجيش البوسني من أسفلها إلى أعلاها، بل وعملت بشكل مستقلٍّ في جميع أنحاء البوسنة.

-      استطاعت الاستخبارات الإيرانية التنقل ضمن شبكات استخباراتية في البوسنة، وإنشاء أنظمة دعم، وتجنيد عملاء ووكلاء لها.

-      التغلغل في جهاز الأمن البوسني (وكالة المعلومات والتوثيق)، إلى جانب التخطيط العملياتي المشترك.

-      غدت السفارة الإيرانية الفاعل الأجنبي الأول داخل البوسنة، واستطاع عناصرها الوصول إلى كل مستويات الحكومة البوسنية.

-      من الآليّات التي سعى لها الإيرانيون للبقاء في البوسنة، محاولة الحصول على الجنسية البوسنية عبر: الزواج القسري من خلال اختطاف النساء، احتلال الشقق للبقاء في البوسنة، ...).

-      ساهم الإيرانيون في ارتكاب مجازر بحق المسلمين؛ لاتهام الصرب واستدراج التدخل الدولي. وتحديداً في حادثة استهداف سوق سراييفو فبراير 1994، عبر قنبلة تمّ تصميمها وبناؤها بمساعدة من حزب الله.

-      منحت إيران للزعيم البوسني علي عزت بيجوفتش 500 ألف دولار عام 1996.

-      حضر السفير الإيراني عام 1996، عرضاً عسكرياً للقوات البوسنية، وكان الضيف الأجنبي الوحيد.

ووفق تحقيق استقصائي موسّع لموقع "صوت أوروبا"، فإنّ ميليشيا حزب الله اللبناني، تنتشر في البلقان، وتحديداً في بلغاريا والبوسنة، حيث سبق لها وأن أنشأت في البوسنة موطئ قدم خلال حرب ما بين 1992 و1995. وبعد الحرب تكيفت إيران وأنشأت شبكات متعاطفة وكسبت نفوذاً في المنطقة والمجتمع. ويشير التحقيق إلى أن حزب الله يعتبر الوكيل الرئيس لنفوذ الاستخبارات الإيرانية في البلقان، حيث يسافر أعضاء الحزب بجوازات سفر غربية، ما يتيح لهم حرية أكبر في الحركة، وبعد الأحداث في العراق وسورية، تم تجنيد عناصر من هاتين الدولتين للانضمام إلى شبكتهم في البلقان. (الخليج أونلاين، ديسمبر 2017)

كما تم توجيه الاتهام عام 2002، لكل من رئيس المخابرات البوسنية السابق بكر علي سباهيتش واثنين من كبار معاونيه: أنور مؤذينوفيتش وعرفان لييفاكوفيتش، لقيامهم بأعمال إرهابية وإقامة معسكرات لتدريب الإرهابيين والتجسس، بمنطقة فوينتسا السياحية، بالتعاون مع المخابرات الإيرانية، من بينهم الجنرال صالح بور محمد، وسعيد ازفيسني المترجم والمتخصص في نزع الألغام. إلى جانب: الرضا جعفر صادل وعلي شاهي الأشغر. وذلك وفق اتفاق سري بين مخابرات البلدين. وشملت الدورات التدريبية الإيرانية: خطف الأفراد والطائرات، حرب الشوارع، والمراقبة السرية. وذلك طيلة الفترة أكتوبر 1995 - فبراير 1996. (الشرق الأوسط، إبريل 2002)

 

ثانياً-الوجود الشيعي في البوسنة:

عمدت إيران وبعدة وسائل إلى تغيير البنى الديموغرافية في البوسنة (التشييع)، منذ تدخلها في تسعينيات القرن الماضي. وذلك نتيجة محددين رئيسين:

-      المحدّد الديني الذي يحكم التوجّهات السياسية الإيرانية، وينظر إلى الآخر من خلال دينه/مذهبه، ومن خلال حالة الكراهية تجاه الآخر السني.

-      أمّا المحدّد الثاني، والقائم على سابقه، فهو عدم وجود جماعات شيعية تذكر داخل البوسنة قبل الحرب، وهو ما سيكون عائقاً أمام النفوذ الإيراني (المستند إلى النفوذ الديني).

ورغم غياب إحصائيات دقيقة حول نسبة الشيعية في البوسنة، إلا أنّ الاحصائيات المتوفرة من مصادر شيعية (إن صحّت)، تدلّ على تطوّر المشروع الإيراني، من خلال ارتفاع حجم الحاضن الشيعي:

-      وفقاً لجمعية آل البيت العالمية، بلغت نسبة الشيعة في البوسنة 0.5% من مجمل السكان وبتعداد 23400 شيعي، عام 2008.

-      قدّر منتدى الجماعة والحياة عام 2009، أنّ مجمل عدد الشيعة لا يتجاوز 15200 شيعي مقابل مليون ونصف مليون سني، أي بنسبة لا تتجاوز 0.3% من مجمل السكان.

-      لم تحدِّد "مؤسّسة المرتضى للثقافة والإرشاد" الشيعية، أو "مركز الأبحاث العقائدية" التابع للسيستاني، عدداً أو نسبة، إنما اكتفيا بالقول إنّهم بعشرات الآلاف (أي 30-300 ألف، أو أنهم 1-7% من مجمل السكان)، وأنّهم يتركزون في العاصمة سراييفو، وفي عموم المدن البوسنية.

-      وفق "مركز الإشعاع الإسلامي" الشيعي، فإنّ نسبة الشيعة الإمامية في البوسنة بلغت 5% من مجمل عدد السكان، لعام 2013.

وفي حال صحّة هذه الأرقام، فمن المرجّح أنّها شهدت زيادة في الأعوام الخمسة الأخيرة، حيث يزداد النشاط التبشيري الإيراني في الأوساط البوسنية.

وتتنوّع وسائل إيران في بناء الحاضن الشيعي في البوسنة، من أبرزها:

-      استخدام حاجة الفقراء، وتقديم معونات معاشية وطبية، بإشراف الهلال الأحمر الإيراني.

-      يلقى البوسنيون المتشيعون دعماً مالياً من إيران والتجار الشيعة العرب، وينشط الإيرانيون والمتشيعون الجدد في شراء الأراضي والعقارات (5).

-      توفير منح للدراسة في إيران، حيث يدرس في قم تحديداً عشرات البوسنيين.

-      إنشاء المراكز "الثقافية" والمدارس، والقنوات التلفزيونية والمجلات، والفرق الغنائية الدينية.

-      التشجيع على الزواج المتبادل، وتشييع الأزواج وأبنائهم.

-      إيجاد فرص عمل للشباب في المراكز الإيرانية/الشيعية.

-      مطالبة المتشيّعين البوسنيّين بإنشاء مؤسسة دينية خاصة بهم، لا ترتبط بمؤسسة "الجماعة الإسلامية"، والدعوة لإنشاء مساجد خاصة بهم.

-      مساعدة إيران بترميم قسم من المساجد التي تدمرت فترة الحرب، والاستيلاء على بعضها وتحويلها إلى مساجد/مراكز شيعية.

-      تم صناعة بطولات/حكايات شعبية وهمية عن المقاتلين الشيعة في البوسنة، تساعد المجتمع البوسني على تقبّل الشيعة والترحيب بهم.

 

ثالثاً-أبرز المؤسّسات الإيرانية (والشيعية) في البوسنة:

تعمل كافة المؤسسات التي تمّ إنشاؤها تحت إشراف الملحقية الثقافية الإيرانية، وهو نمط تكرّر في عدة دول، حيث تشرف الملحقية على النشاط التبشيري-الاستخباراتي.

-     مؤسسة ملا صدر: مؤسّسة جعفرية، أسّسها السيد صدر الدين الشيرازي. وتقع في سراييفو. يديرها حالياً "أكبر عيدي"، الذي يُطلِق على نفسه لقب "بروفيسور دكتور" في البوسنة، في حين أشارت إليه وكالة "صوت العراق" الشيعية بـ "آية الله الشيخ أكبر عيدي، ممثّل الإمام خامنئي في دول البلقان".

-     معهد ابن سيناء: معهد علمي إسلامي جعفري، يقوم على إدارته عدد من العلماء والخبراء الإيرانيين والبوسنيين، متخصّص في أبحاث وعلوم التاريخ الإسلامي والفقه والعقيدة، ويضمّ مكتبة ومؤتمر واسعين للأنشطة المتعددة، ويتناول سيرة العالم ابن سيناء، وسيرة خميني، ويقع في سراييفو.

-     مركز العهد الثقافي الديني، حيث يُدرِّس فيها لبنانيون وشيعة المواد الدينية وفق المذهب الجعفري، ويوفّر للطلاب المغتربين وجبات غذائية ومبيتاً مجانياً، كما يشرف على طباعة الكتب الشيعية.

-     مركزا المنتدى المحمدي، والمحجة البيضاء: في سراييفو.

-     مركز شيعي في بلدة "لييشيفا" الصغيرة، التابعة لمنطقة "إلياش"، شمال العاصمة سراييفو، يؤمّه قرابة 300 شخص شيعي، أي قرابة 3% من مجموع المسلمين في تلك المنطقة (وربما تضاعف الرقم).

-      مدرسة "جولستان" الابتدائية، والكلية الفارسية البوسنية الثانوية، اللتين تنظّمان رحلات دورية للمئات من الأطفال والشباب البوسنيين إلى إيران، وتمنحهم فرصاً للدراسة الجامعية هناك.

-      مجلّة "زهرا" الأسبوعية، وفرقة "كوثر" الغنائية الدينية التي تلقى رواجاً كبيراً في البلاد.

-      قناة "إيريب"، الإيرانية بنسختها البوسنية.

-      قناة "البلقان" التي تحاول من خلالها نشر التشيع في دول شرق أوروبا، وهي تابعة لشبكة سحر الفضائية الإيرانية، وقالت القناة: "بهذا اكتملت تغطية القنوات الوطنية في منطقة شرق أوروبا (البلقان)، حيث كانت مختصرة على البوسنة فقط". مشيرة إلى بثّ برامجها باللغة المحلية حيث تبدأ بـ 8 ساعات بثّ خلال اليوم، ومن المقرر أن ترتفع إلى 24 ساعة.

-      تدشين عدّة مراكز أبحاث ترتبط بالسفارة الإيرانية والملحقية الثقافية.

-      توزيع كتب مجانية وصور خميني وخامنئي وعبارات إيرانية، وتوظيف القضية الفلسطينية.

 ويرصد أحد الناشطين البوسنيين تقصير حكومة بلاده (وربّما تورّطها) تجاه المدّ التبشيري الشيعي. وينوّه إلى أنّ انسحاب المؤسسات العربية (بضغط أمريكي لمحاربة الإرهاب)، ساعد في زيادة زخم الحضور الإيراني (الذي وجد الساحة شبه فارغة في المجال الاجتماعي)، واستطاع الإيرانيون بالتالي الحصول على تصاريح إنشاء المؤسّسات والمدارس". عدا عن توفير بعض الاحتياجات الأساسية (التي تجاهلها الداعم العربي)، من تعليم وصحة، في المدن والقرى، وتحديداً في القرى النائية، واستخدام ذلك لاحقاً في عمليات التبشير (6).

 

رابعاً-الإطار الدبلوماسي للعلاقات الثنائية:

تُعتَبر العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين علاقات نشطة في مجالات الزيارات المتبادلة، غير أنّه تمّ تسجيل الملاحظات التالية:

-      بملاحظة مخرجات تلك الزيارات، يظهر أنّه لم تحقق كثير إنجاز، وأنها تكرّر ذات التطلعات (تعزيز العلاقات التجارية، ورفع التأشيرة عن الإيرانيين).

-      يُلاحظ إصرار إيران المتواصل على رفع التأشيرات عن زيارة الإيرانيين للبوسنة، بحجج توسيع العلاقات وتبادل السياحة. غير أنّه يبدو أن إيران تهدف إلى تيسير دخول وخروج عناصرها إلى البلقان دون قيود.

-      يبدو أنّ سبب عدم تحقيق إنجاز يذكر في هذا المجال، عائد لارتباط إيران بأشخاص نافذين داخل البوسنة (مسؤولين حكوميين ومتشيعين جدد)، أكثر منه علاقات مؤسساتية بين الدولتين.

ومن أبرز الزيارات المتبادلة خلال العامين الأخيرين:

-      لقاء رئيس وزراء البوسنة والهرسك دنيس ازفزيديتش بوزير الخارجية الإيراني، والتأكيد على عدم وجود أي عائق أمام تطوير العلاقات الثنائية، معلناً رغبة بلاده بتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إيران إلى مستوى مناسب، وأشاد بالمساعدات الإيرانية في الماضي، ووصف العلاقات بأنّها ودية للغاية. وبحثا ضرورة توقيع اتفاقية للتجارة التفضيلية، وإقامة علاقات مصرفية، وتوفير التسهيلات بشأن تأشيرات الدخول لتسهيل التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين. كما التقى العضو المسلم في المجلس الرئاسي بكر عزت بيغوفتش بالوزير الإيراني. (إيران اليوم، مارس 2018)

-      استقبل العضو المسلم في مجلس الرئاسة بجمهورية البوسنة والهرسك بكر عزت بغوفيتش، السفير الإيراني في البوسنة، مؤكّداً على ضرورة الرقي بالعلاقات مع طهران، معلناً دعم بلاده لديمومة الأمن والاستقرار والتقدّم في إيران. وأكّد السفير الإيراني على عزم بلاده تطوير العلاقات الودية مع البوسنة والهرسك في جميع المجالات. (إيرنا، يناير 2018)

-      عزّى رئيس مجلس رئاسة الجمهورية في البوسنة والهرسك: دراغان تشوفيج، روحاني بضحايا الزلزال الذي ضرب إيران. (نوفمبر 2017، راديو إيران بالعربي)

-      في حديث لوكالة إيرنا، سبتمبر 2017، قال ليوبو غروكوفيتش، رئيس قسم آسيا وإفريقيا، في وزارة الخارجية البوسنية، أثناء زيارته لطهران: "أنا منبهر وفخور بكيفية تفادي إيران كلّ العقوبات المفروضة عليها، ورغم ذلك تحرز تقدماً في كل المجلات".

-      زار رئيس المجلس الرئاسي للبوسنة والهرسك، بكر عزت بيغوفتش إيران في أكتوبر 2016، ودعا إيران إلى "دخول الأسواق الأوروبية التجارية عن طريق بلاده، التي تمتلك إطاراً قوياً وقانونياً في الاتحاد الأوروبي". وبالتالي فإن على الطرفين الإسراع بحلّ وتسهيل القضايا الخاصة بإصدار التأشيرات والقيود المالية والمصرفية وتوفير تسهيلات حركة السلع. وقد وقّع الطرفان مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون التجاري والاستثماري بينهما. (كونا، أكتوبر 2016)

-      وقع الرئيس الإيراني ورئيس المجلس الرئاسي البوسني في طهران، مذكرة تفاهم بشأن تعزيز التعاون التجاري والاستثمار المتبادل. (Press TV، أكتوبر 2016)

-      فبراير 2016: زيارة وزيرة الخارجية البوسني إلى إيران، ومناقشة قضايا السياحة المشتركة، والبرامج التعليمية والثقافية المشتركة، ونظام تأشيرات مبسط بين البلدين.

-      ديسمبر 2016: زيارة رئيس مجلس القوميات (الشيوخ) بالبرلمان البوسني: صفوت سوفتيتش، إلى طهران.

-      نوفمبر 2015: زيارة وزير التجارة البوسني لطهران، الذي بحث عن فرص أعمال جديدة بين الطرفين بعد رفع العقوبات.

-      يونيو 2015: زيارة رئيس العلماء، حسين كافازوفيتش، إلى طهران.

 

أما أبرز نشاطات السفارة الإيرانية والملحقية الثقافية في البوسنة، فهي نشاطات يطغى عليها الطابع الديني "التبشيري" والاجتماعي:

-      حضور السفير الإيراني احتفالات النيوروز في سراييفو (مارس 2018)

-      نظّمت الملحقية الثقافية الإيرانية في سراييفو، "احتفالات الأيام الثقافية الإيرانية" خلال الفترة 5-11 فبراير 2018، بمناسبة ذكرى الثورة الخمينية. (MEHR News)

-      مشاركة السفير الايراني في البوسنة والهرسك في برنامج لإنشاد قصائد الشاعر الإيراني حافظ، مشيراً الى العلاقات القائمة بين الشعر والعرفان والشاعرية والأخلاق وكذلك المشتركات الثقافية والأدبية بين طهران وسراييفو. وأنّ العلاقات بين البلدين لا تتوقف عند حدود المجالات السياسية والاقتصادية، بل ثمة وشائج فكرية وتأملية بين المفكرين والشعراء والمتنوّرين بين هذين البلدين منذ قدم الزمان. (وكالة مهر للأنباء، نوفمبر 2017)

-      نظّمت الملحقية الثقافية الإيرانية معرضاً فنياً بعنوان "الأيام القرآنية" في مدينتي سراييفو وبيهاج (يونيو 2017)

 

القسم الثاني: تحدّيات الوجود الإيراني في البوسنة والهرسك (عوامل الجذب والطرد)

أولاً-أثر العوامل الديموغرافية:

تعتبر البوسنة والهرسك واحدة من أكثر المناطق تنوّعاً إثنياً (عرقياً ودينياً) في البلقان، بحيث تشكّل منطقة تماسٍّ حضاري بين المسلمين والمسيحية الشرقية (الروسية) والمسيحية الغربية. ورغم تباين الإحصائيات حول التركيب الإثني، والتي تذهب بعضها إلى أنّ نسبة المسلمين لا تتجاوز 40%، تقرّ أخرى غير رسمية أنّ نسبتهم تتجاوز 61%. وقد وقع تهجير كبير لهم في تسعينيات القرن الماضي أدّى إلى انخفاض نسبتهم إلى حد كبير.

وأدقّ البيانات المتوفرة، إحصائية عام 2013، والتي خرجت بالنتائج التالية:

-      عرقياً: البوشناق 50.11%، والصرب 30.78%، والكروات 15.43%، أخرى 3.68%.

-      دينياً: المسلمون 50.7%، مسيحيون أرثوذكس 30.75%، مسيحيون كاثوليك 15.19%، أخرى 3.36%.

-      حيث يكاد يتطابق التوزيع العرقي والديني.

شكل رقم (1)

البنى الإثنية (العرقية والدينية) في البوسنة-2013


ومن نقاط القوة التي قد يستطيع الإيرانيون العمل من خلالها، هو استمرار حالة التعصّب العرقي بين المسلمين والصرب، ووجود عوامل تفجّرها كامنة في المجتمع البوسني. وفي حين يستند صرب البوسنة إلى صربيا وروسيا، فإنّ المسلمين يظلون بحاجة إلى إسناد خارجي، تحاول إيران توفير قسم منه.

وينشط مشروع إيران في أوساط المسلمين (كما هو معتاد في كافة الدول الأخرى)، بحيث يعمل على إعادة تشكيل هويتهم المذهبية شيعياً، وحيث لا يمكن له تغير التركيبة الديموغرافية المسلمة بكاملها أو بأغلبيتها، فإنّه يسعى إلى خلق حواضن شيعية، تقود إلى مزيد من الانقسام الإثني داخل البوسنة من جهة، وإعادة بناء العلاقات التحالفية المجتمعية من جهة ثانية، وزيادة أسباب النزاع داخل المجتمع كذلك.

وخصوصاً أنّ المشروع الإيراني يلقى مقاومة مجتمعية، رغم تجاهل السلطات لهذا المشروع (أو تواطؤها فيه). ففي حوار مع الأستاذ الجامعي أحمد علي باجيتش (المحاضر في الكلية الإسلامية في جامعة سراييفو)، يقول:

-      "عدم قدرة أي من الحركات العالمية على أن تحقق نجاحاً في البوسنة، والسبب أن الساحة ليست فارغة، من يدخل إليها يجد مؤسسة إسلامية لها هياكلها ولا يمكن شراؤها أو وصمها بأنها تابعة للحكومة، إنها دار الإفتاء ... يظل السلفيون والصوفيون والشيعة تحدياً ويسببون لنا القلق".

-      "المذهب الشيعي بشكل أساسي هو ما يشد الناس، فهو مذهب يركز على المشاعر، ومفعم بقصص الضحايا، والبوسنيون يميلون إلى ذلك؛ لأننا عانينا الأمرين ولدينا حساسية عالية تجاه الظلم، حتى أنّ بعض المثقفين تبنّوا موقف إيران إزاء الصراع في سورية حتى وقت قصير خلى، لكنهم يعلنون ابتعادهم عن هذا الموقف الواحد تلو الآخر. لكني أجد أنّ التأثير ديني أكثر مما هو سياسي؛ لأن إيران بعيدة عنا كثيراً من الناحية السياسية، فنحن ننتمي من حيث الثقافة والطباع إلى الغرب (7)".

وعلى رأس المناهضين للمشروع الإيراني في البوسنة، رئيس المشيخة الإسلامية: الشيخ حسين كارزفيتش، والذي قال إبان زيارته لمكة المكرمة في يونيو 2016: "نظام ولاية الفقيه يصر على الاستمرار في نهج البدع، وذلك بتسييس الحج ورفع الشعارات السياسية والتفرقة بين المسلمين في أطهر البقاع ... كان واضحاً من النظام الإيراني بعد رفضه التوقيع على محضر ترتيبات الحج لهدف تسييس الفريضة وإبعادها عن مقصدها لأهداف وغايات لا علاقة لها بالإسلام ... بالإضافة إلى إثارة الفوضى ونشر الجهل بين الحجاج أو الاعتداء، وتفريق المسلمين وجعلهم شيعاً وأحزاباً".

ويُحذّر المناهضون للمشروع الإيراني، من أن يؤدي إطلاق قناة البلقان، إلى مزيد من تقسم المجتمع وإثارة الفتنة داخله، وتحريض شرائحه ضد بعضها، معتبرين أنّ التدخل الإيراني سيجر البلاد إلى حرب أهلية، على المدى المتوسط، وخصوصاً أنّ البلد يضمّ عوامل تفجر صراع أهلي جديد.

إذ إنّ عوامل التصدع الإثني تبقى حاضرة، بل ويتم الاشتغال عليها (من قبل روسيا تحديداً)، رغم ما شهده مؤشر هشاشة/فشل الدولة، من تحسّن سريع وملحوظ خلال العقد الفائت، حيث انتقلت من مستوى التحذير العالي جداً عام 2006 (88.5 نقطة)، ومن المركز 35 عالمياً في ترتيب الدول المهددة بالفشل، إلى مستوى التحذير العالي عام 2017 (73 نقطة) متقدّمةً إلى المركز 93 عالمياً في ترتيب الدول المهددة بالفشل، ويتجه (حالياً) إلى مزيد من التحسن. في حين أنّ إيران كانت عام 2017 في المرتبة 49 عالمياً بين الدول المهددة بالفشل، وبمستوى التحذير العالي جداً (85.5 نقطة).

شكل رقم (2)

مؤشر هشاشة/فشل الدولة Fund For Peace-2017


ثانياً-أثر العوامل السياسية:

تشتغل إيران سياسياً على محوريين:

-      العلاقات الدبلوماسية الرسمية والشخصية مع القيادات الرسمية للدولة (كما مر سابقاً).

-      العمل على تعزيز العلاقات مع الهياكل السياسية في الدولة. حيث تتكون البوسنة من: اتحاد البوسنة والهرسك، وجمهورية صرب البوسنة، ومقاطعة بريتشكو. وقام السفير الإيراني في مايو 2017، بزيارة مدنية بانيا لوكا، في جمهورية صرب البوسنة، والتقى رئيسها ميلوراد دوديك (ذا النزعة الانفصالية)، ورئيس غرفة التجارة فيها، ومفتي المسلمين فيها. وأعرب مسؤولو صربسكا عن ترحيبهم بتنمية العلاقات مع إيران، وضرورة تنميتها في مختلف المجالات، والتواصل لاحقاً لتعزيز العلاقات الثنائية.

وتشير هذه العلاقات مع الهياكل السياسية ذات النزعة الانفصالية، إلى اشتغال إيران على تعزيز الانقسامات المحلية، رغم أنّ احتمالات اللجوء إلى العنف واضحة للغاية، وعلنية من قبل صرب البوسنة. ما يقود إلى الاستنتاجات التالية:

-      ربّما تُنسِّق إيران وروسيا في عملية خلخلة المجتمع البوسني.

-      ربّما تشتغل إيران على تغذية أسباب النزاع الأهلي في المستقبل القريب. حتى تستطيع من خلال جماعتها (المتشيعون الجدد) أن تفرض هيمنتها وتنحّي القوى السنية من البوسنة، وصولاً للتنسيق مع صرب وكروات البوسنة، أو هو على الأقل ما تتطلّع إلى الحصول عليه مستقبلاً. وخاصّة أنّ هذا نهج إيران الذي يتكرر في عدة دول، لناحية صناعة أقليات وتحالف مع أقليات، وتغذية أسباب النزاع المحلي.

-      رغم التصريحات العدائية التي تخرج من مسؤولي صربسكا، إلا أنّ القيادات البوسنية لم تعترض على زيارة السفير الإيراني لهم.

شكل رقم (3)

التقسيمات السياسية لجمهورية البوسنة والهرسك


 

ورغم العلاقات الدبلوماسية النشطة بين الطرفين (وربّما الشخصية)، إلا أن ذلك لم يمنع من طرد دبلوماسيين إيرانيين عام 2015، هما: حمزة دولاب أحمد، جديدي صهراب، باعتبارهما شخصين غير مرغوب فيهما، بناء على طلب من وزارة الأمن، بعد تواصلهما مع زعيم شيعي محلي متشدد. فيما تشير التسريبات إلى أنّ سبب الطرد هو قيامهما بالتجسس (8).

في حين تستفيد إيران من البنية البوسنية السياسية (ذات نسب الفساد المرتفع)، في تعزيز العلاقات مع أشخاص داخل السطلة. حيث ارتفع مستوى الفساد فيها منذ عام 2012، لتحتل البوسنة المرتبة 91 عالمياً من أصل 180، ورغم ذلك تبقى إيران متأخرة عنها وفي المرتبة 130 عالمياً، مع تحسن طفيف للغاية. (قيمة المؤشر: 100=الأقل فساداً، 0=الأعلى فساداً)

شكل رقم (4)

مؤشر إدراك الفساد للبوسنة وإيران Transparency International-2017


ثالثاً-أثر العوامل الاقتصادية:

شكل رقم (5)

مؤشرات اقتصادية مقارنة بين إيران والبوسنة، البنك الدولي


ملاحظات حول هذه المؤشرات:

-      سجّل إجمالي الدخل القومي والمحلي الإيراني قيمة تتجاوز 25 ضعفاً لنظيره البوسني، وذلك طبيعي نتيجة حجم كل دولة، وحجم اقتصادها، عدا عن حجم الثورات النفطية التي تستحوذها إيران.

-      ورغم ذلك، يتقارب نصيب الفرد في الدولتين، ما يعطي دليلاً على تقارب طبيعة اقتصاد الدولتين.

-      يُشكِّل الدين الخارجي عبئاً كبيراً على الحكومة البوسنة، وهو ناتج عن الفساد وضعف الموارد وآثار الحرب وعدم الاستقرار الداخلي.

-      غير أنّها تتلقّى مساعدات خارجية، تجعل حصة الفرد البوسني تعادل 100 ضعف (تقريباّ) من حصة نظيره الإيراني، والتي لم تسجل زيادة ملموسة منذ عام 1960 (بل تسجل تراجعاً في حال احتساب فرق القيمة الشرائية للدولار).

-      رغم أنّ البوسنة، تُسجّل مؤشر تضخم سلبي (غياب التضخم)، إلا أنها في المقابل تسجل نسبة بطالة مرتفعة تجاوز ربع السكان. ووفق مصادر أخرى تصل إلى 28% منهم.

-    ووفق بعض المصادر، تبلغ البطالة في البوسنة 62.3% بين شريحة (15-24 عاماً) (9).

-      وتستنزف الواردات من السلع والخدمات أكثر من نصف الناتج المحلي البوسني، فيما تستحوذ واردات الطاقة على قرابة ربع هذا الناتج، ما لا يترك مجالاً للادخار والتنمية المحلية.

-      حيث تسجل البوسنة المرتبة 81 عالمياً (من أصل 188) على دليل التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2016، وهي مرتبة قريبة من إيران (69).

-      وبلغت نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع متعدّد الأبعاد (يعانون من أحد أوجه الحرمان الشديد)، وفق دليل التنمية البشرية لعام 2016، قرابة 1.7%، إلى جانب 3.2% من المحتمل تعرضهم له. عدا عن أن قرابة 18% من السكان يقعون تحت خط فقر الدخل الوطني.

 

انعكاس المؤشرات على العلاقات مع إيران:

-      من المؤشرات السابقة، يتضح أنّ اقتصاد البلدين متشابه، بحيث لا تمتلك إيران بنية/تجربة تنموية تقدّمها للبوسنة، ترفع من مستوى معيشة الأفراد فيها.

-      عدا عن أنّ التحسّن (الملحوظ) في الدخل القومي الإيراني، هو مؤقت نتيجة رفع جزئي للعقوبات الدولية عام 2016. في حين لا تمتلك إيران فوائض مالية كبيرة تستثمرها في البوسنة. عدا عن أنّ تجاربها في كثير من الدول لا توحي بأنّ إيران راغبة في مثل هذه الاستثمارات.

-      رغم أنّ البنية البوسنية التحتية فقيرة للغاية، وقادرة على امتصاص كثير من الاستثمارات الأجنبية، عدا عن رخص اليد العاملة. غير أنّ الفساد وعدم الاستقرار ربّما يكونان عامليّ طرد، لإيران وسواها. حيث ما تزال البوسنة تُسجِّل تراجعاً في هذا الاستثمار، رغم التحسن الظاهري في نسبة التراجع.

شكل رقم (6)

الاستثمار الأجنبي المباشر في البوسنة-البنك الدولي


-      تفضِّل إيران تقديم دعم مالي عبر مشروع التبشير المذهبي (التشييع)، وعبر العلاقات الشخصية.

-      للتدليل على ضعف العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، يمكن مراجعة حجم التجارة البينية، والتي رغم كلّ التأكيدات واللقاءات الرسمية لرفدها، سجّلت وفق بيانات 2014 الصادرة عن غرفة التجارة الخارجية البوسنية: صادرات بوسنية إلى إيران بقيمة 1.58 مليون يورو، وواردات منها بحوالي 600 ألف يورو. حيث تصدّر البوسنة إلى إيران مكونات كهربائية وتقنية، وتستورد منتجات غذائية (Balkan Insight). أي بميزان تجاري ضعيف للغاية ولصالح البوسنة.

شكل رقم (7)


تحديات الاقتصاد البوسني:

ينمو اقتصاد البوسنة بوتيرة بطيئة، حيث يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد 28% من متوسط نظيره في الاتحاد الأوروبي. وتوصف البوسنة باستمرار بأنها "دولة مختلّة الوظائف"، وأحيانًا "دولة فاشلة". كما أنّها تُتهم بالفساد، حيث تنتشر البيروقراطية بشكل واسع وتسود الانقسامات العرقية التي لا يمكن تجاوزها. (مجلة ناتو ريفيو، 2015)

وبدأت منذ فبراير 2014، بشكل متكرر ومتقطع، احتجاجات ضدّ حكومة اتحاد البوسنة والهرسك، أُطلِق عليها اسم الربيع البوسني، وقد تمّ إضفاء الطابع الشخصي على العمّال من عدّة مصانع تمّ خصخصتها وأصبحوا مفلسين، للمطالبة باتخاذ إجراءات بشأن الوظائف والرواتب والمعاشات غير المدفوعة. وانتشرت الاحتجاجات إلى بقية الاتحاد، مع اشتباكات عنيفة في حوالي 20 مدينة وبلدة. وهي تعبير عن غضب عامّ على البطالة العالية وعقدين من الجمود السياسي في البلاد منذ نهاية الحرب البوسنية في عام 1995. في حين لم تشهد جهورية صربسكا (صرب البوسنة) ذات العنف، بل شهدت تجمّعاً لمئات العمال لدعم الاحتجاجات في بلدة بانيا لوكا ضدّ حكومتها المنفصلة.

في ظل هذه البيئة والتحديات، لا يبدو أنّ لدى إيران اقتصادياً، الكثير لتقدّمه للبوسنة، عدا عما تحمله المخاطر الاجتماعية المقبلة على أي استثمار.

 

رابعاً-الارتباطات الأمنية والعسكرية:

كما العلاقات الاقتصادية الهشة بين الطرفين، والدبلوماسية الرسمية، فإنّ العلاقات العسكرية تبقى في ذات الأطر المحدودة، رغم التأسيس للوجود الاستخباراتي والأمني الإيراني، غير أنّ هذا الوجود يظلّ محدوداً بمئات الأفراد من الإيرانيين والمتشيعين الجدد البوسنيين.

وبمقارنة القدرات العسكرية بين الطرفين، لا يمكن الحديث عن إقامة تحالف عسكري بينهما، حيث تتفوّق إيران بشكل كبير للغاية عن البوسنة، وإن كانت هناك من علاقات ستتجاوز موضوع التنسيق المشترك إلى هيمنة إيرانية، سواء لناحية التدريب والاستخبارات وتوريد الأسلحة ...الخ.

ورغم ذلك، تشير التسريبات إلى أنّ إيران ما تزال تمتلك قاعدة عسكرية تدريبية (صغيرة) بالترتيب مع الجيش البوسني، في ضواحي مدينة فيسكو، إلى جانب تمويل وحدة عسكرية بوسنية (وحدة عبد اللطيف) (10).

وفي إطار التنسيق الأمني المشترك، قام وفد برلماني إيراني بزيارة إلى البوسنة، التقى فيها بمسؤولين برلمانيين وسياسيين وأمنيين بوسنيين (MEHR News). لكن الملاحظ أن الوفد الإيراني كان برئاسة علاء الدين بوروجردي رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي في البرلمان الإيراني، والتقى تحديداً برئيس اللجنة المشتركة للدفاع والأمن في البوسنة: سيفت بوديتش، وتم مناقشة قضايا تتعلق بالأمن والدفاع.

وفقاً للسفير الإيراني في البوسنة، محمد حيدري، فإنّ هناك تطويراً للتعاون الأمني بين البلدين (وتحديداً في مجال مكافحة الإرهاب). (تحرير نيوز، ديسمبر 2016)

وتركِّز اللقاءات الثانية بين مسؤولي البلدين مؤخراً، على قضية التشارك في محاربة الإرهاب. إذ إنّه يتم الاشتغال على بناء تهديد جديد، من خلال تهديد "عودة مقاتلي داعش" إلى البلقان، أو نقلهم من قبل بعض الأطراف الإقليمية. وتشير الأرقام الروسية إلى أن البيانات الرسمية تؤكد وجود 700 بوسني داعش، في حين تشكّك المصادر الروسية بذلك، وتدّعي أن الرقم قد يصل إلى ثلاثة أضعاف.

وتحاول إيران ترويج روايتها في محاربة داعش لدى البوسنيين، وعرض التعاون، بهدف تعزيز الحضور الاستخباراتي الإيراني. على أنّ عوامل التطرف قائمة في المجتمع البوسني، سواء أكانت متعلقة بالبطالة أو الفساد أو التدخل الأجنبي، إلى جانب النزعة الانفصالية لصرب البوسنة، كلها عوامل قد تشكل بمجملها عوامل جذب للشباب البوسني المسلم نحو الجماعات المتطرفة للدفاع عن الذات، وخصوصاً أن ذاكرة الحرب ما تزال قائمة.

شكل رقم (8)

أهم القدرات العسكرية الإيرانية والبوسنية، Global Firepower، 2017


خامساً-تحدّي التدخلات الخارجية:

غير أنّ الوجود العسكري والأمني الإيراني في البوسنة، قد يواجه تحدّيات أكبر من تحدي العلاقات الثنائية، وهو متعلّق بموقع البوسنة كمنطقة تماسّ/صدام حضاري شرقي-غربي-إسلامي. حيث تُعتَبر المنطقة منطقة نفوذ تركي وروسي وصربي وأوروبي غربي، وإسرائيلي مؤخراً، لكل منهم مطامعه وادعاءاته التاريخية، التي قد تستعيد خيارات العنف (الحرب الأهلية) لاحقاً في المنطقة، بشكل أكثر حدة عن العنف الذي وقع في التسعينيات، في تكرار لسيناريو المشرق العربي (سورية تحديداً)، ويبقى الحضور الإيراني الأضعف بينها حتى تاريخه، وإن كان قد تم تأسيس قواعده.

وقد رصدت Erjada Progonati، عدّة نقاط حول التدخل الإيراني في البوسنة، حيث وجدت أنّ (11):

-      العديد من الأنشطة الدولية الإيرانية تشكل النماذج التي يمكن تطبيقها أيضاً في منطقة البلقان: حدود سائبة، وفساد مستشر، ومناطق متخلفة وضعيفة نسبياً، فيما يسمح أمن دول البلقان لإيران وميليشيا حزب الله بتوسيع عملياتهم في المنطقة.

-      يأتي التوسّع الديبلوماسي الإيراني في جزء منه، استراتيجية مستخدمة لتحقيق التوازن بين ضغوط المجتمع الدولي بخصوص البرنامج النووي، ويشمل جزء آخر مهم من هذه الاستراتيجية تطوّرات التأثير الاقتصادي والسياسي الإيراني في الدول ذات الأغلبية المسلمة التي تتداخل مع مصالح إسرائيل.

-      البلقان من وجهة نظر إيران، منطقة مهمة؛ لأن الأمن وتطبيق القانون ليسا في المستوى الذي يمكن أن يتعارض مع تدخلها، بالإضافة إلى أنّ مسلمي البلقان يتقبلون التأثيرات الإسلامية الأجنبية.

-      في وقت تزيد إسرائيل من حجم حضورها الدبلوماسي والتجاري والسياحي في البلقان. ويُظهر الكيان الأرثوذكسي في البوسنة المتمثل بصربسكا موقفاً مؤيداً لإسرائيل، وما ما أثر في موقف جمهورية البوسنة بامتناعها عن التصويت لصالح فلسطين في الأمم المتحدة عام 2012.

فيما تدعم روسيا تقسيم البوسنة والهرسك، من خلال العلاقات الوثيقة مع جمهورية صرب البوسنة، ولو تطلب ذلك استخدام العنف. حيث تتلقى قوات الشرطة والأمن في صربسكا تدريبات وأسلحة روسية، تجاوزت الأسلحة الخفيفة إلى صواريخ مضادة طيران، في انتهاك مباشر لاتفاق دايتون للسلام. وتقدّم مجموعة "الذئاب الليلية" الروسية مساعدة شبه عسكرية لتشكيل قوات قومية صربية في البوسنة، وهي المجموعة التي أدت دوراً عسكرياً قوياً في احتلال شبه جزيرة القرم. وتدعم روسيا بشكل مباشر، رئيس جمهورية صرب البوسنة: ميلوراد دوديك، في طموحاته الانفصالية بشكل مالي وسياسي وعسكري؛ بغية الحصول على موطئ قدم داخل البلقان وقريب من أوروبا الغربية، ضمن استراتيجية إعادة تشكيل النظام الدولي. إلى جانب ارتفاع مستوى التعاون الأمني مع جمهورية صربيا، حيث وقع الطرفان اتفاقيات تفاهم تتلق بتعزيز مجالات الشرطة وتبادل المعلومات. وتقوم صربسكا بتجهيز مطارات وثكنات عسكرية، لتحويلها إلى قاعدة عسكرية، يمكن من خلالها تسليم الدعم الروسي بشكل أكثر سرية وفعالية. وتدعم روسيا العديد من عصابات الجريمة المحلية والروسية، تظهر على أنها منظمات قومية غير حكومية، بلغ تعدادها 78، وبرعاية حزب تحالف الديمقراطيين الاشتراكيين المستقلين SNSD وهو حزب دوديك (12).

فيما سعى دوديك، إلى ربط مصيره بتوجهات موسكو، بما في ذلك بيع الحصة الأكبر من قطاع الطاقة بجمهورية صربسكا إلى شركة زاروبيز نفط الروسية. ونظّم دوديك الاحتفال بعيد جمهورية صربسكا، يناير 2017، متضمناً عرضاً عسكرياً، في تحدٍّ لكل من المحكمة الدستورية للبوسنة والهرسك والممثل السامي فالنتين انزكو (13). وأعادوا الاحتفال ثانية في يناير 2018.

ويظهر تحدٍّ آخر، متعلّق برغبة كلٍّ من الحكومة البوسنية وبعض الدول الغربية، في انضمام البوسنة إلى المؤسسات الغربية (الناتو، والاتحاد الأوروبي). وهو ما سيعني عرقلة الوجود الإيراني في المنطقة. غير أنه لا يبدو أنّ هناك إمكانية في انضمام البوسنة قريباً.

رغم أنّ البوسنة وقّعت اتفاقيات استقرار وشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وأرسلت البوسنة والهرسك طلباً رسميّاً للانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي في فبراير عام 2016.

كما أطلق الاتحاد الأوروبي في فبراير 2018، استراتيجية توسّع جديدة تجاه دول غرب البلقان، داعياً الدول إلى "مضاعفة جهودها على وجه السرعة، ومعالجة الإصلاحات الحيوية، واستكمال تحوّلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي". بحيث يمكن للبوسنة أن تصبح مرشّحة للانضمام "بجهد ومشاركة متواصلين"، إذ سيبدأ النظر في طلبها عند استلام الأجوبة على استبيانها، والذي سلّمه القادة البوسنيون في 28 فبراير. وخصوصاً في ظلّ قلق الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بشراء جمهورية صرب البوسنة أسلحة روسية، مع مدربين روس، وعن محاولات "إنشاء تشكيلات مسلحة". (Crisis Group)

 

د. عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري

 

هوامش الدراسة:

(1) الشبكة الوطنية الكويتية، أكتوبر 2010: http://www.nationalkuwait.com/forum/index.php?threads/145611/

 

(2) Christopher Cox, "Clinton Vetoed Congress' Bills to Help Bosnia While Encouraging Iran to Do So, Instead Giving Iran a Foothold in Europe", Global Security, April 26, 1996:

https://www.globalsecurity.org/intell/library/news/1996/hrpc_iranalt.htm

 

(3) John Barry, "The Elusive Quds Force", Newsweek, February 25, 2007:

http://www.newsweek.com/elusive-quds-force-105035

 

(4) للمزيد، انظر أرشيف الموقع حول هذا الموضوع، على الرابط التالي: https://archives.globalresearch.ca/articles/DCH109A.html

 

(5) _____، "العمامة الإيرانية تغزو البوسنة مجدداً"، صحيفة كل الوطن السعودية، 18/8/2015: http://www.kolalwatn.net/news201294

 

(6) محمد عابد، "تمدد التشيع يرفع تحذيرات تحول البوسنة والهرسك لبنان جديدة"، الخليج أونلاين، 24/2/2017:

http://alkhaleejonline.net/articles/1487615985455025700/%D8%AA%D9%85%D8%AF%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D9%8A%D8%B9-%D9%8A%D8%B1%D9%81%D8%B9-%D8%AA%D8%AD%D8%B0%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%88%D8%B3%D9%86%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%B1%D8%B3%D9%83-%D9%84-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9

 

(7) شارلوته فيديمن، "المذهب الشيعي يجتذب البوسنيين"، ترجمة: يوسف حجازي، قنطرة، 2012:

http://ar.qantara.de/content/lslm-fy-lbwsn-lmdhhb-lshyy-yjtdhb-lbwsnyyn

 

(8) _____، "العمامة الإيرانية تغزو البوسنة مجدداً"، صحيفة كل الوطن السعودية، 18/8/2015: http://www.kolalwatn.net/news201294

 

(9) World Factbook, Bosnia and Herzegovina, Central Intelligence Agency:

https://www.cia.gov/library/publications/resources/the-world-factbook/geos/bk.html (accessed March 1, 2018).

 

 

(10) _____، "العمامة الإيرانية تغزو البوسنة مجدداً"، صحيفة كل الوطن السعودية، 18/8/2015: http://www.kolalwatn.net/news201294

 

(11) Erjada Progonati, "The Balkan Region As A New Target for the Iranian-Israeli Political Rivalry", DergiPark Akademik, October 2017: http://dergipark.gov.tr/download/article-file/391586

 

(12) Reuf Bajrovic, Richard Kraemer, Emir Suljagic, "Bosnia on the Russian Chopping Block: The Potential for Violence and Steps to Prevent It", Foreign Policy Research Institute, March 16, 2018:

https://www.fpri.org/article/2018/03/bosnia-russian-chopping-block-potential-violence-steps-prevent/

 

(13) كريستوفر بينيت، "دول البلقان الغربية تشهد حالة من التراجع"، مجلة NATO Review، 2/2/2017:

https://www.nato.int/docu/review/2017/Also-in-2017/backsliding-western-balkans-kosovo-servia-bosnia/AR/index.htm