مخاطر التشاؤم: لماذا تكون الأمم القَلِقَة أمماً خطِرة؟
دانييل دبليو. دريزنر • ٣ سبتمبر ٢٠٢٥
المؤلف: دانييل دبليو. دريزنر Daniel W. Drezner
ترجمة: د. عبد القادر نعناع
يتمثل الجانب المظلم في العلاقات الدولية أنه على الرغم من اتفاق الجميع على أهمية القوة، إلا أنه لا يوجد اتفاق على كيفية تعريفها أو قياسها. هناك لحظات نادرة يحدث فيها توافق حول توزيع القوة: كالهيمنة الأمريكية قبل جيل من الآن مثلاً. وهناك لحظات أكثر عندما تظل القوة والنفوذ النسبي للقوى الكبرى غير واضحين: كالعقد الأخير من السياسة الدولية مثلاً، والذي تشكّل من خلال سرديات متنافسة متعددة حول صعود الصين وتراجع الولايات المتحدة. وهناك لحظات تُختبر فيها مسألة القوة الدولية برمتها: كالأوقات التي تندلع فيها الحروب الكبرى، مثل الحرب الجارية حالياً بين روسيا وأوكرانيا.
عادةً ما يُنظر إلى القوة على أنها قدرة دولة على إرغام الآخرين على القيام بما تريد. وغالباً ما يقيس الخبراء ذلك من خلال النظر إلى القوة العسكرية أو الناتج المحلي الإجمالي. لكن هذه القياسات، في أحسن الأحوال، جزئية —وفي أسوأ الأحوال، متحيزة— ولا تكشف سوى القليل جداً عن كيفية تصرف الدولة أو عدم تصرفها. والعامل الحاسم الذي يغيب في مثل هذه الحسابات هو التوقعات المستقبلية، وما إن كان قادة الدولة يعتقدون بمصير متفائل أم متشائم لبلادهم. فإن اعتقد القادة أن المستقبل يبدو غير مؤاتٍ، فإنهم سيُغَرّون باتخاذ إجراءات محفوفة بالمخاطر في الحاضر لتفادي المزيد من التراجع، مما قد يؤدي إلى سباقات تسلّح ومناورات على حافة الهاوية خلال الأزمات. في المقابل، يتوقع القادة المتفائلون مستقبلاً أكثر إشراقاً لبلادهم، وبالتالي يفضلون الصبر الاستراتيجي، الذي يميل إلى إنتاج استثمارات في الحوكمة العالمية.
لقد فوجئت الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها –بسرور– بمسار الحرب في أوكرانيا، حيث اعتقد الكثيرون أن روسيا ستنتصر فيها بسهولة وسرعة. لكن، ولسوء الحظ، قد يكون هذا الإحساس بالتفاؤل عابراً —وطبعاً، بالكاد يتفق مع وجهة نظر موسكو وبكين–. في الواقع، يمكن تصور سيناريو تجعل فيه أزمة أوكرانيا العالم كله أكثر تشاؤماً بشأن المستقبل، مما قد يعني احتمالاً أكبر بكثير لنشوب حرب بين القوى الكبرى.
توقعات كبيرة
طالما اعتُبِرت القوة عملة السياسة العالمية، لكن هناك اتفاقاً قليلاً –سواء في الأوساط الأكاديمية أو السياسية– حول كيفية تعريفها. ولتوضيح ذلك، هناك طريقة سهلة عبر سرد جميع الصفات المرتبطة بالمصطلح، مثل "ناعمة soft"، "حادّة sharp"، "اجتماعية social"، "هيكلية structural"، وهذه مجرد الصفات التي تبدأ بالحرف (s). ويختلف التعريف المطبق للقوة من قضية إلى أخرى، ومن فاعل إلى آخر.
أحد أسباب هذه التباينات هو أن قادة السياسة الخارجية يفترضون أموراً مختلفة عن المستقبل، وتحدد هذه الافتراضات بدورها أبعاد القوة المهمة. فبعض أشكال النفوذ ذات قيمة في الحاضر، بما في ذلك القوة العسكرية والإكراه الاقتصادي. لكنها رغم أهميتها في الأزمات، غالباً ما تخلق معضلات أمنية غير منتجة. وعندما تزيد قوة كبرى ميزانيتها العسكرية، حتى لأغراض دفاعية، سيشعر المنافسون بضرورة الرد بالمثل.
فيما أشكال أخرى من النفوذ تعمل بوتيرة أبطأ. فالشبكات الاقتصادية وأطر الأمن لا تُبنى بين عشية وضحاها. إذ إن بناء هياكل الحوكمة العالمية، مثل مؤسسات بريتون وودز ومعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، مهمة شاقة قد تستغرق سنوات. فالقوة الناعمة —أي قدرة دولة على إقناع دول أخرى برغبات مماثلة— قد تستغرق أجيالاً لتتطور وتُمارس. لكن لهذه الأشكال من القوة مزاياها: فهي تقوي نفسها ذاتياً؛ فبمجرد تأسيسها، يصعب على المنافس إيجاد بدائل. لكن غالباً لن يهتم القائد الذي لا يتطلع نحو المستقبل البعيد بهذه الوسائل؛ لأن عوائد الاستثمار فيها ليست فورية. على خلاف القائد المتطلع نحو المستقبل، والذي سيكون مستعداً لتحمل تكاليف قصيرة المدى للاستثمار في أدوات القوة التي ستثبت قيمتها على المدى الطويل.
أما إن كان قادة السياسة الخارجية سيتخذون منظوراً قصير أو طويل الأجل للقوة، فهذا يعتمد على عدة عوامل. فإن اعتقد القادة أن العالم الذي يعيشونه هوبزيّ —حيث الحياة فقيرة، وبغيضة، وحشية، وقصيرة—فلن يمكنهم تحمل رفاهية النظر بعيد المدى. إذ إن النظام الدولي المليء بالكوارث والأوبئة والنمو الاقتصادي المحدود والعنف يفرض عليهم التركيز على المدى القصير. بمعنى آخر، لمعظم تاريخ العلاقات الدولية، كان المنظور قصير المدى منطقياً تماماً.
ومع ذلك، سنحت الظروف العالمية الأفضل في الآونة الأخيرة للقادة برؤية مستقبل أكثر إيجابية. فقد أنهى العالم فخ مالتوس—الاعتقاد بأن نمو السكان محدود بالإنتاج الزراعي— وبدأت الثورة الصناعية، إيذاناً بعصر يمكن للناس فيه الاعتقاد بجدارة أن أياماً أفضل قادمة. وارتفع متوسط العمر المتوقع للبشر من أقل من 30 عاماً في عام 1800 إلى أكثر من 70 عاماً في 2015. وخلال فترة زمنية مماثلة تقريباً، انخفض معدل وفيات الأطفال بمقدار عشرة أضعاف. أي أن عالم أصبح فيه الجميع أكثر صحة وثراءً، بمستقبل أكثر إشراقاً.
كانت هذه الاتجاهات شبه عالمية، لكن الدول الفردية تختلف في تفاؤلها أو تشاؤمها النسبي بشأن قوة مستقبلها. فيمكن لصانعي السياسات في دول ذات معدلات مواليد قوية ومستدامة وهجرة خارجية ضئيلة تفسير هذه المؤشرات على أن دولتهم في صعود. بينما قد تشير معدلات المواليد المنخفضة والهجرة الخارجية المرتفعة إلى العكس. وبالمثل، يمكن للدول التي تشهد نمواً اقتصادياً سريعًا أو ركوداً مستمراً أن تتوقع نفس النمط في المستقبل. عموماً، يُتوقع أن تكون الدول ذات اتجاهات النمو القوي مقارنة بمنافسيها أكثر تفاؤلاً بشأن المستقبل. كما يمكن للنتائج السياسية الهامة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، أن تؤثر في التوقعات المستقبلية. فالدول التي تفوز في الحروب من المحتمل أن تكون واثقة من قدرتها المستقبلية على مواجهة التهديدات الأمنية التقليدية، في حين أن الدول الخاسرة ليس أمامها خيار سوى الالتزام ببناء قوة عسكرية قصيرة المدى، خشية المزيد من الهزائم على أرض المعركة.
كما يمكن للمعلومات المرصودة أن توجه توقعات الدول الزمنية: فالاقتصاد المزدهر عادةً ما يكون علامة جيدة. ومع ذلك، في معظم السياقات، يبقى المستقبل غير مؤكد. فحتى المعلومات المفترضة الموضوعية يمكن أن تقدم إشارات متناقضة أو مربكة. وعليه، لا تزال الأهمية الحقيقية لمعدل النمو الاقتصادي في الصين أو أهمية الدولار الأمريكي للتجارة العالمية، على سبيل المثال، محل جدل كبير. بمعنى آخر، يمكن للمقاييس المادية أن تقلل من حالة عدم اليقين بشأن المستقبل إلى حد محدود.
وتتعامل النخبة في السياسة الخارجية مع هذا الغموض عن طريق صياغة روايات متماسكة حول ما إن كان المستقبل سيكون مواتٍ أو غير مواتٍ لمصالح بلادهم. ففي حين تعتمد الأيديولوجيات مثل الماركسية والليبرالية الدولية، على سبيل المثال، على رؤى للتقدم تقوم على صعود بعض الفاعلين بلا توقف نحو السلطة والازدهار، فإن الروايات الأكثر تشاؤماً تشمل دورات تاريخية من الصعود والهبوط، أو التدهور النهائي، والعنف، وإعادة الولادة.
عموماً، تتنوع الروايات الاستراتيجية حول المستقبل، لكنها عادةً ما تتخذ أحد شكلين تقريبيين: يرى الفاعلون ذوو التوقعات الإيجابية أن توزيع القوة في المستقبل سيكون أفضل لبلادهم مقارنة بالحاضر، بمعنى آخر، المستقبل مواتٍ، والأحداث ستكافئ الصبر الاستراتيجي. بينما يرى الفاعلون ذوو التوقعات السلبية أن توزيع القوة في المستقبل سيكون أسوأ لبلادهم مقارنة بالحاضر. هؤلاء الفاعلون يرون مستقبلاً غير مواتٍ وقد يشعرون بالحاجة لاتخاذ إجراءات فورية لدرء التدهور.
التطلع نحو المستقبل البعيد
لا تستطيع الحكومات المتشائمة التركيز كثيراً على المستقبل البعيد لأنها تعتقد أنه يجب عليها التحرك في الحاضر لتجنب عالم أكثر خطورة. في هذه الظروف، ما يهم هو ما يُعرف بالقدرات الحركية —أدوات السياسة التي يمكن استخدامها فوراً لتغيير الحقائق على الأرض بأسرع ما يمكن–. لذا، سيركز قادة هذه الدول معظم اهتمامهم على الموارد العسكرية والاقتصادية الحالية، وعلى الجهود النشطة لزيادتها. قد يلاحظ هؤلاء القادة المبادرات التي تقوم بها دول أخرى لتعزيز قوتها الناعمة أو تطوير شبكات أو مؤسسات بديلة، لكنها ستثير اهتماماً أقل لديهم، فالقادة الذين يركزون على الحاضر لن يعطوا الأولوية لمثل هذه التهديدات طويلة المدى.
في المقابل، تتمتع الحكومات التي لديها توقعات إيجابية بشأن المستقبل بثقة في استمرار صعودها الوطني. وهذا يتيح أفقاً زمنياً أطول، مما يسمح لصانعي السياسات بالاستثمار في أشكال القوة التي تستغرق وقتاً أطول لتؤتي ثمارها: الحوكمة العالمية، الدبلوماسية الثقافية، التحالفات والشراكات طويلة الأمد، الابتكارات التكنولوجية الطموحة، وما إلى ذلك. إذ تتطلب هذه الأشكال من القوة استثمارات كبيرة ووقتاً لتطويرها، لكن مكافآتها كبيرة. كما أن التوقعات المتفائلة تعني أن هذه الدول يمكنها تطبيق تعريف طموح للقوة عند تقييم قدرات الآخرين. ويمكن ملاحظة ما تفعله القوى الكبرى الأخرى في العديد من أبعاد القوة، وليس القوة العسكرية فقط. كما أوضح عالم الاجتماع ستيفن لوكس Steven Lukes: "كلما اتسع نطاق ما يُحتسب على أنه قوة وفقاً لإطارك المفاهيمي، كلما تمكنت من رؤية المزيد من القوة في العالم".
إن مدى تفاؤل أو تشاؤم القوى الكبرى بشأن المستقبل له تأثيرات عميقة في استراتيجياتها الحالية. فعالم فيه قوى كبرى متفائلة سيكون فيه ساحات مواجهة قليلة الحروب. وستستثمر هذه القوى الكبرى الواثقة في موارد تهدف إلى الجذب والإكراه معاً، مما يشير إلى عالم متنازع عليه لكنه مسالم نسبياً. أما عالم القوى الكبرى المتشائمة، فسيؤدي إلى التركيز على القدرات العسكرية وإغراء الانخراط في أعمال وقائية، وستكون النزاعات المسلحة أكثر احتمالاً في عالم متشائم، حيث يكون دور القوة في أقصى أهميته.
وعند البحث في الديناميكية بين قوة صاعدة وأخرى راسخة، فإنه بالنسبة لكلا الفاعلين، سيغير الاعتقاد بأن أياماَ أفضل قادمة إدراكهم للتهديدات. بالنسبة للقوة الصاعدة، يجعل هذا التفاؤل الاستثمار الفوري في القدرات العسكرية يبدو غير ضروري، لأنه قد ينطوي على خطر إثارة صراع غير مطلوب، فأي شيء قد يثير رد فعل وقائي من القوى الراسخة غير مرغوب فيه. ولماذا ستخاطر بزعزعة الوضع القائم المقبول إن كانت الخطوات التصحيحية ستكون أسهل في المستقبل، عندما يكون توزيع القوة أكثر ملاءمة؟
كما يجعل التفاؤل القوة الراسخة أقل ميلاً لاستخدام القوة عند مواجهة منافس صاعد، والذي قد تبدو جهوده لتحدي النظام الأمني القائم أشبه بأعمال تخريب ذاتي أكثر منها تهديداً حقيقياً. وبهذا، تتخذ القوى المهيمنة المتفائلة بعض الإجراءات الوقائية لضمان عدم قدرة القوى غير القانعة على تهديد مصالحها الأمنية الأساسية، لكنها تركز أساساً على دفع الدول الصغيرة لقبول القواعد القائمة للعبة. فيما تولي القوى الراسخة ذات الآفاق الزمنية الطويلة اهتماماً أكبر للقوى الصاعدة التي تستثمر في القدرات غير العسكرية، مثل القوة الناعمة، التي قد تشكل مخاطر حقيقية على المدى البعيد.
قدمت التسعينيات مثالاً جيداً لهذه الديناميكيات. حيث استوعب صانعو السياسات الأمريكية أطروحة "نهاية التاريخ" للعالم السياسي فرانسيس فوكوياما، التي تفترض أنه لم يعد هناك أي منافسين أيديولوجيين عالميين للديمقراطية الليبرالية والسوق الحرة. كما عززت الحجة التي طرحها ناي بأن الولايات المتحدة تمتلك فائضاً من القوة الناعمة من هذا التفاؤل. وزادت الثقة الأمريكية أيضاً بفضل الإيمان بالديمقراطية وما يُعرف بتوافق واشنطن حول التنمية الاقتصادية النيوليبرالية. وبفضل هذا التفاؤل، لم يكن من المستغرب أن تختار الولايات المتحدة الانخراط بدل المواجهة مع منافسين محتملين مثل الصين.
لم يكن من المستغرب أيضاً أن ترحب الصين بهذا الانخراط. من خلال احتضان العولمة، حيث شهد اقتصاد الصين نمواً استثنائياً. وكانت توقعات بكين للمستقبل إيجابية أيضاً، ممثلة بالنصيحة الحذرة للقائد الصيني دنغ شياو بينغ للبلاد: "راقب بهدوء، ثبتت موقعك، تعامل مع الأمور بهدوء، أخف قدراتك وانتظر الوقت المناسب، كن بارعاً في الحفاظ التواضع الشخصي، ولا تَدّعِ القيادة أبداً". حيث كان للصين أسباب وجيهة تدفع بعيداً عن متابعة أهداف متمردة صريحة خلال هذه الفترة، لأنها كانت تتوقع مستقبلاً مشرقاً. لم يكن من مصلحة الصين تحدي النظام الدولي الليبرالي مباشرة، إذ قد يعني ذلك حرمانها من فوائده. لذلك، استثمرت كل من بكين وواشنطن أكثر في الحوكمة العالمية طويلة المدى والقوة الناعمة. رغم أن القوة العسكرية موجودة دائماً، لكنها لم تكن الخيار السياسي الأول لأي من القوتين الكبريين.
في المقابل، فإن عالماً تتوقع فيه القوى الكبرى مستقبلاً متشائماً سيكون أكثر خطورة بكثير. في هذه الحالة، سيركز الفاعلون على القدرات العسكرية قبل كل شيء. على عكس أشكال القوة الأخرى، يمكن نشر القوة العسكرية بسرعة خلال الأزمات. وقد تختار القوة الصاعدة، خوفاً من نافذة محدودة للصعود، الحصول على الموارد العسكرية لتعظيم ميزتها المؤقتة ومنعها من التخلف مرة أخرى. أما قوى الهيمنة الراسخة، التي تخشى أيضاً مستقبلاً متراجعاً، فقد تتصرف سلباً وتسرّع نزاعاً عسكرياً اعتقاداً منها بأن قوتها ستتناقص مع مرور الوقت. فبالنسبة لدولتين متشائمتين، سيزيد التأخير في الحسم العسكري من خطر الكارثة.
المثال الكلاسيكي لتطبيق هذه الديناميكية هو ما سبق الحرب العالمية الأولى. عشية هذا الصراع، كانت المملكة المتحدة أقوى دولة في العالم. ومع ذلك، كان صانعو السياسات البريطانيون قلقين للغاية بشأن صعود ألمانيا الويليمية السريع، خصوصاً توسعها البحري. بدورها، كانت برلين تتوقع مستقبلاً سلبياً نظراً للتراكم الأسرع للقوة لدى روسيا. وبحلول عام 1912، خاف قادة الأركان العامة البروس من أن قدرات روسيا ستصبح في أقل من خمس سنوات كبيرة جداً لمواجهتها. أدى ذلك إلى دفع الاستراتيجيين الألمان للدعوة إلى شن حرب وقائية قبل أن تُغلق نافذة ألمانيا للسيطرة على أوروبا القارية. باختصار، كانت أوروبا مستهلكة بالتشاؤم. لذا، انخرطت جميع القوى الكبرى في استراتيجيات تسلح محمومة، ومعظمها في حروب تجارية. وتم تشبيه هذا الوضع بالغابة المورقة المليئة بالأخشاب الجافة، حيث كل ما يلزم هو شرارة عشوائية —اغتيال دوق— لإشعال النار.
عصر التشاؤم
خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، واصلت الصين التصرف كقوة كبرى متفائلة. كان الاقتصاد الصيني ينمو بسرعة، وبيئة الأمن في بكين تتحسن، وأصبح مواطنو البلاد أكثر تعليماً من أي وقت مضى. (وحتى اليوم، تشير استطلاعات الرأي العام إلى أن الصينيين أكثر تفاؤلاً بشأن المستقبل وأكثر ثقة بأن بلادهم تتجه في الاتجاه الصحيح مقارنة بأي اقتصاد رئيس آخر). عزّز هذا الإحساس بالثقة الصبر الاستراتيجي والتركيز على المدى الطويل. فرعت بكين معاهد كونفوشيوس في الخارج لتعزيز صورتها وقوتها الناعمة، واستثمرت في استراتيجية دبلوماسية طويلة الأمد للحد من الاعتراف الدولي بتايوان. كما طورت قضايا متفرقة لتلعب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد بعضهما البعض، كل ذلك مع تعزيز حسن النية في "عالم الجنوب". كما بدأت الصين في إنشاء هياكل للحوكمة العالمية يمكن أن تتحدى النظام الدولي الليبرالي، بما في ذلك بنك التنمية الجديد، وبنك الاستثمار في البنية التحتية الآسيوي، ومبادرة الحزام والطريق.
في نفس الفترة، تدهورت توقعات الولايات المتحدة. فقد هزت هجمات 11 أيلول/سبتمبر، والحرب الكارثية على العراق، والأزمة المالية لعام 2008، ثقة الأمريكيين في المستقبل. وفقاً لبيانات استطلاع غالوب، كانت آخر مرة اعتقد فيها غالبية المستجيبين الأمريكيين أن بلادهم تتجه في الاتجاه الصحيح هي كانون الثاني/يناير 2004. كما أن استعراضاً سريعاً لخطابات التنصيب الرئاسية الأخيرة يلمح إلى تصاعد هذا التشاؤم. ففي 2009، وسط أزمة اقتصادية وحرب، شدّد الرئيس الأمريكي باراك أوباما على ضرورة "البدء من جديد في مهمة إعادة صنع أمريكا". وكان خطاب الرئيس دونالد ترامب في 2017 أكثر مبالغة، إذ شجب "المجزرة الأمريكية" في السنوات الثماني السابقة ووعد بـ "حماية حدودنا من ويلات دول أخرى تصنع منتجاتنا، وتسرق شركاتنا، وتدمر وظائفنا". وفي خطاب التنصيب عام 2021، أقر الرئيس جو بايدن بأن "قليلاً من الفترات في تاريخ أمتنا كانت أكثر تحدياً أو صعوبة من الفترة التي نحن فيها الآن".
على الرغم من تزايد التشاؤم الأمريكي، نجحت الصين إلى حد كبير في تجنب المواجهة. من خلال الانضمام إلى "الحرب على الإرهاب" التي قادتها الولايات المتحدة، وتمكنت الصين من الصعود بينما كانت الولايات المتحدة تركز على الأخطار الأكثر إلحاحاً. كما كانت الصين صبورة بما يكفي للاستثمار في هياكل الحوكمة العالمية التي لم يعتبرها العديد من المسؤولين الأمريكيين تهديدات وشيكة. وبدا مستقبل بكين مشرقاً، فلم تشعر بالحاجة لمواجهة الهيمنة الأمريكية فوراً، وكان على الصين الانتظار فقط حتى يحين الوقت المناسب.
مع ذلك، بدأ تفاؤل بكين يتراجع مع استحواذ الزعيم الصيني شي جينبينغ على السلطة. فقد سجلت الصين معدلات ولادة أقل مما كانت عليه منذ 30 عاماً، وفشلت الجهود الحكومية الأخيرة لتعزيز هذه الأرقام. وسجلت الصين أبطأ معدل نمو سكاني سنوي منذ عقود، وانخفض عدد العمال المهاجرين في 2020 لأول مرة منذ بدء جمع البيانات. مقارنة بالولايات المتحدة، تواجه الصين أزمة ديموغرافية شديدة. ويبدو من المحتمل الآن أن تشيخ البلاد قبل أن تصبح غنية. في الوقت نفسه، أدت سياسات الصين الصارمة المتعلقة بـ "صفر كوفيد" إلى تدهور الرأي العام في المناطق الحضرية مثل بكين وشنغهاي.
كما أصبح المستقبل الاقتصادي للصين أكثر تشاؤماً في السنوات الأخيرة. على الرغم من النمو الاستثنائي بين 2000 و2010، فقد كان التباطؤ خلال العقد الماضي حاداً بنفس القدر. إذ انخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي من ذروة 14٪ في 2007 إلى حوالي 2٪ في 2020. كما انخفض إجمالي نمو الإنتاجية إلى النصف منذ الأزمة المالية لعام 2008، مما دفع عالم السياسة ديني روي Denny Roy لوصف الصين بأنها "قوة عظمى منخفضة الإنتاجية". علاوة على ذلك، تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي للصين ما يقرب من ثلاثة أضعاف تلك الخاصة بالولايات المتحدة. ويبدو أن نمو الاقتصاد المستقبلي أقل وعداً نظرًا لفشل جهود الإصلاح تحت قيادة شي. كما لاحظ الاقتصادي دانييل روزن Daniel Rosen في هذه الصفحات عام 2021: "يشير تقييم صادق للانتكاسات الأخيرة إلى أن الوقت ينفد … ليس هناك سوى بضع سنوات لصالح الصين للتحرك قبل أن ينضب النمو".
تشكل هذه الاتجاهات سبباً للقلق. إذ ستكون العلاقات بين الدول الأقل استقراراً عندما تتبنى جميع القوى الرائدة توقعات متشائمة —وهي حالة قد تصف العقد القادم ]الحالي[ من سياسة القوى الكبرى –. فقد اعتمدت كل من الصين والولايات المتحدة وجهات نظر سلبية عن العالم، وهناك سبب للخوف من أن تتزايد سوداويتها أكثر. كما أن كلا البلدين يشهدان شيخوخة سكانية. وأصبح الهجرة إلى الولايات المتحدة، المصدر التقليدي للقوة الديموغرافية، متوقفة وفقاً لمكتب الإحصاء الأمريكي. ووفقاً لأحد التقديرات، هناك حالياً 1.8 مليون مهاجر أقل من الفئة العمرية العاملة في الولايات المتحدة مقارنة بما كان سيكون موجوداً لو استمرت اتجاهات الهجرة قبل 2020. والأسوأ من ذلك، أن الصدمات النظامية المستمرة —جائحة كوفيد-19، الاضطرابات المالية، اختناقات سلسلة التوريد العالمية، الاستقطاب السياسي— ستزيد من عقلية الأزمة التي تدعو للتفكير قصير المدى.
التطلع نحو الجانب المشرق
التشاؤم أيضاً هو عامل رئيس في الحرب في أوكرانيا. فعلى الرغم من كل حديثه عن استعادة عظمة روسيا، يتبنى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رؤية تشاؤمية للعالم، وهذا يفسر قراره بغزو أوكرانيا. لقد فشلت التدخلات الروسية في 2014 في القرم وأوكرانيا الشرقية بشكل كبير. فبدلاً من العودة إلى الحظيرة الروسية، استجابت أوكرانيا بتعزيز قدراتها العسكرية واقترابها أكثر من الناتو والاتحاد الأوروبي. ومع تسارع انجراف أوكرانيا غرباً، شعر بوتين بضرورة التحرك سريعاً —وبالقوة العسكرية— قبل أن تهرب كييف تماماً من نفوذ روسيا. وكما أوضح مسؤول غربي استخباراتي لبي بي سي، شعر بوتين "كما لو أن نافذة الفرصة تغلق أمامه".
وغذّى مسار الحرب المفاجئ على الأرجح تشاؤم بوتين —وشجع أيضاً التشاؤم في بكين–. ربما توقع المسؤولون الصينيون استجابة غربية مجزأة وغير فعّالة تجاه حرب روسيا. وليس من المستغرب موافقة شي على "صداقة بلا حدود" مع بوتين قبل الغزو. لكن مع مرور أشهر الحرب، بدا موقف الصين أكثر ضعفاً. فقد ترك دعم بكين لروسيا جيرانها الآسيويين أكثر حذراً تجاه النوايا الصينية. علاوة على ذلك، ولمساعدة أوكرانيا، أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية التي حدت بشدة من قدرات روسيا. لا يمكن للمسؤولين الصينيين النظر إلى الصعوبات التي تواجهها روسيا في إخضاع جارتها دون التفكير في أوجه الشبه مع تايوان. وإن كان شي يخشى أن نافذة الفرصة للقيام بالتوحيد القسري تغلق، فقد يتصرف بشكل وقائي.
يبقى السؤال الأساسي هو ما إن كانت الحرب في أوكرانيا ستدفع الولايات المتحدة إلى تبني توقعات أكثر إيجابية بشأن مستقبلها. فعلى مدى العقدين الماضيين، أضعفت الهجمات الإرهابية والأزمات المالية والاستقطاب السياسي التفاؤل الأمريكي. ويهدد التضخم المتصاعد ونقص السلع بتفاقم التشاؤم الأمريكي أكثر فأكثر. وإن خاف صانعو السياسات من تراجع قوة وتأثير البلاد، فإن احتمال نشوب حرب بين القوى الكبرى سيرتفع بشكل كبير.
مع ذلك، قد يكون دعم الولايات المتحدة الناجح لأوكرانيا نقطة تحول. فلأول مرة منذ سنوات، أظهرت الولايات المتحدة كفاءة سياسية خلال أزمة عالمية. وقد ذكّرت المقاومة الشرسة لأوكرانيا وانتماؤها لأوروبا والولايات المتحدة الجميع، بما في ذلك الأمريكيين، بأن القوة الناعمة والقوة الهيكلية للولايات المتحدة ما تزال قائمة. وبعد عقود من الخطاب حول تراجع الولايات المتحدة وانكماش الديمقراطية، يمكن الآن لصانعي السياسات الأمريكيين التحدث عن تحالفات مستعادة وعزم على تعزيز النظام الدولي الليبرالي. وربما بدأت تصورات الهيمنة الأمريكية تتغير باتجاه أكثر إيجابية.
وفي حال اعتقد المسؤولون الأمريكيون أن المستقبل سيكون أكثر إيجابية من الحاضر، فقد يتمكنون من التركيز على تعزيز النظام الدولي الليبرالي الذي خدم مصالح الولايات المتحدة لعقود. ومع اهتمام أقل بالتهديدات الفورية، قد تتمكن واشنطن من إعادة التأكيد على الأهداف طويلة الأمد، مثل عكس تراجع الديمقراطية وبناء مجموعة مرنة من القواعد للاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين. وعلى الرغم من تصاعد التشاؤم الصيني، يمكن للولايات المتحدة القوية، الواثقة في مستقبلها ودورها في العالم، أن تستعيد موقعها التاريخي داخل النظام الدولي. وعليه، ستعزز الولايات المتحدة المتفائلة المؤسسات الدولية وتوفر جسراً للدول في عالم الجنوب —بما في ذلك الصين— التي ترغب في الانضمام إلى النظام بصفتها أصحاب مصلحة مسؤولة. ومع ذلك، إن استسلمت القوى الكبرى للتشاؤم، فلن يكون هناك ضمان لأي شيء، وسيمر العالم بعقد خطير.
النص الأصلي منشور في مجلة Foreign Affairs، بتاريخ 21/7/2022، على الرابط التالي:
https://www.foreignaffairs.com/articles/world/2022-06-21/perils-pessimism-anxious-nations

رغم بعض الجوانب المهمة في الإعلان الدستوري المؤقت، مثل تجريم دعوات الانفصال أو الاستقواء بالخارج أو تشكيل فصائل مسلحة أو تأييد جرائم النظام البائد. إلا أن هذا الإعلان الدستوري أبعد ما يكون عن بناء نظام ديموقراطي. حيث يركز الإعلان السلطة التنفيذية بيد الرئيس (غير المسؤول أمام أحد)، كما يمنحه تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، فيما يمنح صلاحية اختيار الثلثين للجنة يتم تعيينها من قبل الرئيس، ولا يملك المجلس أية صلاحيات رقابية أو حسابية على السلطة التنفيذية، ما يعطي النظام طابعاً استبدادياً. أي أن الرئيس يملك صلاحيات واسعة تشبه تلك التي في الأنظمة السلطوية، وخصوصاً مع محدودية دور البرلمان، والقيود المفروضة على التشريعات وتعيين الأعضاء، كلها تشير إلى ضعف استقلالية البرلمان مقارنة بالديمقراطيات الحقيقية. وفيما تمتلك السلطة القضائية بعض الاستقلالية، لكن هيمنة الرئيس على تعيين القضاة وتشكيل المحاكم وإدارة قضايا الدولة تظل مؤشراً على وجود تأثير قوي للرئيس في السلطة القضائية. بالنظر إلى هذه العناصر، يُمكن وضع هذا الإعلان الدستوري في نقطة أقرب إلى الأنظمة الاستبدادية، وحيث لا يزال هناك بعض التعددية في السلطة في الجوانب الشكلية، مثل وجود برلمان ومحاكم، لكن هذه الهيئات تظل تحت رقابة شديدة من رئيس الجمهورية، مما يشير إلى وجود سلطوية واضحة مع القليل من التوازن الديمقراطي. وطالما أن الشعب لا ينتخب البرلمان، فليس له رقابة على البرلمان أبداً، وطالما أن البرلمان غير منتخب فهذا يبرر أنه لا يراقب الحكومة ولا يحاسبها (مجرد استجواب)، فلا سلطة له على الحكومة. وبالنتيجة لا مكان للشعب في إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية. الخطوة القادمة بالغة الأهمية أيضاً، هي سن القوانين بناء على هذه الدستور، وهذا السن قد يخلق إشكاليات على مستوى فهم النص الدستوري وتفسيره، وخصوصاً في قضايا العدالة الانتقالية، وإعادة بناء الاقتصاد، وقانون الأحزاب، والمشاركة السياسية، والمساواة في الفرص (هل تعني المساواة في الفرص عدم دستورية الاستئثار البيروقراطي الجاري حالياً)، وهنا نعود إلى فكرة أن المحكمة الدستورية التي عينها الرئيس هي من يقرر أن القوانين التي يقترحها الرئيس أو البرلمان المعين من قبل الرئيس، دستورية أم لا. أما الدعوة لتشكيل لجنة كتابة دستور دائم، فهذه يجب أن تنبع من مؤتمر وطني أكثر شمولاً واختصاصاً بعد إطلاق العملية السياسية، وليس بناء على تعيين أو تشكيل أو تكليف. هذا الإعلان خطوة باتجاه نظام الفرد القائد (الاستبداد)، وابتعاد كبير عن النهج الديموقراطي المنشود. وبالتالي هو إعلان بأن السلطة لن تكون راعية لإطلاق عملية انتقالية، وبالتالي تصبح المهمة مسؤولية النخب والقوى السياسية أن تبدأ في عملية إنشاء قوى وأحزاب وتكتلات سياسية، تطلق مرحلة نضال سياسي جديدة في مواجهة السلطة، بغية إحداث أسس أكثر صلة بالانتقال الديموقراطي، وبغية الاشتغال على مسار تنشئة سياسية مضادة للتنشئة السلطوية الموروثة أو المستجدة. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية

أستاذ العلاقات الدولية، عبد القادر نعناع، يرى أنه من الطبيعي أن تسعى الإدارة السورية الجديدة إلى استعادة مكانتها وفعاليتها في العالم العربي، كما أن ذلك يصبّ في صالح الدول العربية. ويقول في حديثه لـ "الترا سوريا": "رغم أن بعض الفتور كان ظاهرًا في الأسابيع الأولى من استلام الشرع بين سوريا ومصر، إلا أن من مصلحة مصر وكل الدول العربية أن تستعيد سوريا مكانتها من جهة، إلى جانب إخراجها من المحور الإيراني وموازنة النفوذ الإقليمي، وحيث إن القضية الفلسطينية تشهد واحدة من أكثر مراحلها خطورة، فإنها تحتاج إلى توافق عربي على آليات المرحلة". ويضيف: "هذا يستوجب الانفتاح على الحكومة السورية بغض النظر عن أية تحفظات لدى بعض الحكومات العربية، وبالنتيجة هو ما يجب أن يكون فعلًا، أي أن تشارك سوريا الجديدة في المحافل الإقليمية والدولية كافة، حتى ترسّخ شرعية التغيير الحاصل". وتعكس دعوة الإدارة السورية الجديدة للقمة رغبة عربية في استقرار سوريا وخروجها من أزمتها الطويلة، وفق ما يؤكد نعناع، لكنه يشير إلى أن هذه الرغبة تترافق بشيء من الترقب العربي والدولي لسلوكيات الحكومة الجديدة، وإن كانت دول مثل قطر والسعودية وتركيا أكثر انفتاحًا، إلا أن الجميع يراقب المشهد السوري ومآلاته. ويرى نعناع أن هناك توافقًا عربيًا حول ضرورة الاستقرار في سوريا وإنهاء الحرب والأزمات، لكن هذا التوافق قد يتردد في مزيد من الانفتاح على الحكومة الحالية مؤقتًا، بانتظار المزيد من السلوكيات المطمئنة. وتشكل عودة سوريا إلى الحاضنة العربية مكسبًا استراتيجيًا لها على عدة أصعدة، وفق ما يوضح أستاذ العلاقات الدولية، عبد القادر نعناع. فمن الناحية الدبلوماسية: "تسهم المشاركة الفعّالة في المنظمات الإقليمية والدولية بتعزيز سياسات سوريا الخارجية وترسيخ شرعية المرحلة الانتقالية، إضافة إلى أن قبول سوريا في محيطها العربي يعزز من مكانتها على الساحة الدولية". واقتصاديًا يمكن أن تحقق فوائد ملموسة، "مثل تعزيز التعاون التجاري، وجذب الاستثمارات المشتركة، والمساهمة في مرحلة إعادة الإعمار والعدالة الانتقالية". ويعدّ بناء كتلة إقليمية ودولية داعمة أمرًا ضروريًا لمواجهة التهديدات الأمنية الإيرانية والميليشياوية والإسرائيلية التي تتعرض لها سوريا، بحسب نعناع، خاصة وأن هذه التهديدات تؤثر في مصالح العديد من الدول العربية. بموازاة ذلك، تمثّل عودة سوريا إلى المنظومة العربية تحوّلًا استراتيجيًا يعزّز من الأمن القومي العربي. ويلفت عبد القادر نعناع إلى أنه "في السنوات الماضية، كانت سوريا منطلقًا للتهديدات الأمنية عبر الميليشيات الإيرانية وتهريب المخدرات ونشاط الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، لذا شهدنا انفتاحًا واضحًا من دول مثل السعودية والأردن ولبنان وقطر، بهدف القضاء على هذه المخاطر". ويؤكد أن عودة سوريا تُعدّ خطوة لتوسيع آفاق التعاون العربي، سواء عبر تعزيز التنسيق الأمني والاستخباراتي، أو من خلال دعم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة، ما يسهم في موازنة القوى الإقليمية ضد التأثيرات الخارجية السلبية. يحذر نعناع من أن الطرفين الإيراني والإسرائيلي، يجتمعان اليوم على تغذية الفوضى في المشرق العربي عمومًا وسوريا خصوصًا، في محاولة من كل منهما لتوسيع مناطق نفوذه. ويضيف: "تحاول طهران إحياء مشروعها الذي تعرّض لانكسار بعد أحداث 7 من أكتوبر واغتيال الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصر الله، وهروب بشار الأسد، عبر وكلاء جدد، لكن بذات الآليات السابقة، وهي آليات زرع الفوضى". مداخلة حول: "عودة سوريا إلى الجامعة العربية.. مكاسب استراتيجية مهدَّدة"، ألترا سوريا، 2025/3/11، مع Ninar Khalifa على الرابط التالي: https://ultrasyria.ultrasawt.com/%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%83%D8%A7%D8%B3%D8%A8-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%87%D8%AF%D9%8E%D9%91%D8%AF%D8%A9/%D9%86%D9%8A%D9%86%D8%A7%D8%B1-%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9

لم تكن تصريحات نتنياهو الأخيرة خارج سياق ما يحصل في الشرق الأوسط منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أو في سياق انفجار النزاعات المسلحة في المنطقة. لكن اغتيال قيادات حماس وحزب الله، ثم سقوط نظام الأسد، كان بمثابة سقوط الشرق الأوسط الإيراني، وبالتالي هذا أحدث فراغاً استراتيجياً على مستوى المنطقة، تسارع إسرائيل لتعبئته منذ 8 كانون الأول/ديسمبر، مانعة ظهور قوى إقليمية منافسة جديدة، وهذا ما أسميناه حينها ببداية تبلور شرق أوسط إسرائيلي (تهيمن عليه إسرائيل). يتفق هذا الشكل من الشرق الأوسط، مع الطبيعة العدوانية المتطرفة لنتنياهو ومشروعه التوسعي، ومع وصول أقوى داعميه (ترامب) إلى البيت الأبيض، وفراغٍ متّسع، وضعف دول الجوار، وغياب القوى الموازنة، وانهيار الدولتين السورية واللبنانية. جميع هذه المتغيرات، عززت المطامع الإسرائيلية المستمرة بالتوسع من جديد، وخصوصاً أن إسرائيل لا تؤمن بالحدود الثابتة، وهذا جزء أصيل في مشروعها منذ ما قبل عام 1948. أي إن هناك تهديدات جدية بتوسع المشروع الإسرائيلي أكثر فأكثر في سورية، بما يتجاوز المنطقة العازلة، وربما تكون تهديدات نتنياهو، مؤشراً على مرحلة قادمة لا تمتلك فيها سورية القدرة على المواجهة إطلاقاً (أسوء من مرحلة النكسة عام 1967، حين لم تمتلك سورية مقومات المواجهة)، ونظن أن نتنياهو جاد في استهداف القوات السورية التي قد تشكل عائقاً أمام مطامعه. وحيث أن نتنياهو اعتبر أن القوات السورية هي (هيئة تحرير الشام)، فهو بشكل أو بآخر لم يعترف بعد بالحكومة السورية الجديدة، وما يزال ينظر إلى المجريات باعتبار أن جماعة إسلامية سيطرت على الحكم، محاولاً خلق متغيرات أمنية جديدة عبر استغلال ما تراه إسرائيل "فوضى" سورية. وهناك مساران محتملان للمشهد السوري، إما رغبة نتنياهو الشخصية في توسيع حدود إسرائيل، بشكل حزام أمني أو بشكل دائم، أو أن ما يجري هو نوع من ممارسة الضغوط القصوى بهدف دفع دمشق لمفاوضات سلام مباشرة. بالنتيجة، هذا يتطلب من الحكومة السورية جملة خطوات، تبدأ دبلوماسياً في العواصم الإقليمية والدولية، وتمر عسكرياً، عبر استكمال تحويل الفصائل إلى جيش سوري وطني، وربما عبر اتفاقيات دفاعية وتسليحية وتدريبية هي بأمس الحاجة لها، في ظل توحش إسرائيلي شرق أوسطي، وتنتهي سياسياً على المستوى الداخلي من خلال حكومة تتشارك فيها كل القوى السورية مسؤولية الدفاع عن الدولة. وربما قد يكون الوقت مناسباً لإطلاق مسار مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع تل أبيب. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية

يشهد الشرق الأوسط مرحلة جديدة من اختلال توازن القوى الإقليمي، الذي تتسابق فيه كل من تركيا وإسرائيل لتصحيح هذا الخلل بما يعزز مكانتهما الإقليمية. ربما تكون إسرائيل الأكثر فعالية في ذلك، حيث أنها هي المتسبب الأكبر بهذا الخلل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وخلال عام واحد، استطاعت كسر المحور الإيراني في اثنتين من محطات ارتكازه شرق أوسطياً (لبنان وسورية)، وبالتالي أحدثت فراغاً استراتيجياً غير معتاد، يحتاج إلى كثير جهد لملئه. عموماً، يشهد الشرق الأوسط ما نسميه (التغييرات العَقْدِية: أي أن هناك تغييرات كبيرة كل عقد من الزمن)، وهذه التغييرات تكون بناء على ما سبق وتأسيساً لما سيلي. لكن التغييرات هذه المرة كانت أكبر بكثير، وهي شبيهة بوقع احتلال العراق. وربما تكون أكبر من ذلك، فمنذ احتلال العراق عام 2003، اشتغلت إيران على بناء شرق أوسط إيراني سيمتد حتى صيف 2024، كان لإيران فيه النفوذ الأكبر، والحراك العسكري الأكثر انتشاراً، والمكاسب الأكثر استراتيجية. وبالتالي، فإن ما حصل منذ اغتيال نصر الله في أيلول/سبتمبر 2024 وهروب الأسد في كانون الأول/ديسمبر، هو انهيار الشرق الأوسط الإيراني، وبداية شرق أوسط إسرائيلي سيتم تأسيسه خلال سنين قادمة. ولكل شرق أوسط لزومه الخاص بقيامه، ومن لزومه تصفية كل ما يتعلق بالمشروع الإيراني، وهنا لا نعني تصفية النظام الإيراني، بل إخراجه من معادلات القوة شرق الأوسط، عبر إخراجه من المرتكزين الآخرين: العراق واليمن أولاً ، وإعادة إيران إلى ما دون مرحلة توازن الرعب (التوازن النووي الوشيك) لضمان التفوق النووي الإسرائيلي، وإيجاد وكلاء جدد للشرق الأوسط الإسرائيلي، ومن ذلك كان تصفية كل عناصر القوة العسكرية لسورية ما بعد الأسد (تدمير أكثر من 80% من قوتها العسكرية)، وهو ما قد يحتاج إلى سنوات من الاستهداف المستمر (ضربات جوية، اغتيالات، تخريب، دعم قوى محلية، تحشيد دولي)، قبل الوصول إلى مرحلة "السلام الإسرائيلي Pax Israeliana"، ونشك في إمكانية الوصول إلى هذا النمط من السلام (حيث تعيش إسرائيل آمنة تماماً على ذاتها ومصالحها)، حيث أن إسرائيل تسعى لفرض هذا السلام دون أية تسويات فعلية لتعقيدات الشرق الأوسط التي تسببت بها. وفيما يستند نتنياهو إلى مشروع شخصي بالغ التطرف منذ 2023، فإنه الآن يستند إلى ترامب صاحب المشاريع المتطرفة الأخرى في المنطقة (صفقة القرن، اتفاقات أبراهام، نقل السفارة، الاعتراف باحتلال الجولان، حملة الضغط الأقصى)، وبالتالي يشكل ترامب عامل تحفيز أكبر لتعزيز الشرق الأوسط الإسرائيلي، سواءً في الطرح المتطرف المتعلق بتهجير سكان غزة، أو بدء عمليات عسكرية غير محدودة في الضفة الغربية، أو فرض توجهات شرق أوسطية تتفق مع بناء أمن إسرائيلي جديد. وربما يكون من سمات هذا الشرق الأوسط، طي صفحة استخدام القوى العسكرية دون الدولة (الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى)، والعودة إلى العمل ما بين الحكومي في المنطقة، لكن ذلك لا ينفي أن لإسرائيل مطامع ما تزال حاضرة في تفتيت المنطقة ما استطاعت إلى ذلك، وخصوصاً مع سلوكها العلني تجاه سورية ولبنان. ولا يعني أن إسرائيل ستشتغل على تحقيق شرق أوسطها كما فعلت إيران (عبر ميليشياتها)، بل هي أكثر حاجة إلى وجود كلاء شرق أوسطيين يتولون هذه المهمة، ومع صعوبة تشكيل ميليشيات على النمط الإيراني، فإن أمام إسرائيل نمطين آخرين: تعزيز النزعات الانفصالية كما تفعل مع قسد في شرق سورية، أو الاعتماد على حكومات شرق أوسطية مقابل منافع وضمانات أمنية واقتصادية، ومن غير الواضح بعد أي النمطين أكثر إمكانية (وإن كنا نرجح النمط الثاني أكثر). ورغم ما يظهر من رفض عربي معلن حول مشروع تهجير سكان غزة، لكن لا حدود لتطرف محور نتنياهو-ترامب، وبالتالي تبقى قدرة الدول العربية على التأثير الحقيقي محدودة، وإن كان طرح ترامب بجعل غزة منطقة استثمار سياحي وتهجير سكانها داخلياً أو خارجياً قد يكون نوعاً من بوالين الاختبار لقياس مدى قدرة ترامب على الضغط على شركائه في الشرق الأوسط، وخصوصاً مع رفض فلسطيني-عربي لأية عمليات تهجير من غزة، تبقى قدرة الدول العربية على فرض موقف موحد فعّال موضع تساؤل، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية والتباين في المصالح بين العواصم العربية، فيما قد تحمل زيارة ترامب المرتقبة للسعودية تبياناً للتوجهات القادمة. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية

عميد كلية العلوم السياسية في جامعة الزيتونة الدولية الدكتور السوري عبد القادر نعناع تحدث لـ «القدس العربي» عن مجموعة من الهواجس التي قد تكون مشتركة بين مصر وسواها من دول عربية أو غربية، لكن ما يجعل الموقف المصري أكثر تعقيدا من وجهة نظره «بنية العقل السياسي المصري التقليدية أولاً، والعسكرية الأمنية ثانياً، والمستندة إلى حالة قلق مفرط من حراك أي طرف من قوى الإسلام السياسي ثالثاً». وقال نعناع: مصر، كغالبية الدولة العربية، لا تتفق مع التغييرات الراديكالية في نظم الحكم العربية، وإن كانت دول الخليج كذلك، لكن الشبه الجمهوري – العسكري يجعل مصر أكثر حساسية للتغيير الحاصل في سوريا. ورغم أن مصر لم تكن على وئام مع نظام الأسد، ولم تكن على عداء كذلك، بل يمكن وصف العلاقة بأنها مجمدة، بل ولم تبادر مصر إلى كسر هذا الجمود مع نظام الأسد كما فعلت السعودية والإمارات، لكنها في الطرف الآخر استقبلت مئات آلاف السوريين (لأسباب إنسانية، وليس لأسباب سياسية) دون أن يعني ذلك أي علاقة مع قوى المعارضة السورية منذ يونيو/حزيران 2013. وتحدث الخبير في العلاقات الدولية عن تجربة مصر الراهنة التي «تستند إلى صدام مع الإسلام السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين، ولا تزال الدولة المصرية تلاحق بقايا عناصر الحركة، فإن ذلك يجعل تقبل حركة إسلام سياسي في دولة عربية أخرى غير مقبول للقيادة المصرية، عدا عن ظهور بعض الشخصيات الملاحقة مصرياً في دمشق بعد ساعات فقط من سقوط نظام الأسد، بل وتجرأ بعضها على توجيه رسائل تهديد للحكومة المصرية. عدا عن مطالب مصرية بتسليم بعض الشخصيات المصرية الموجودة في سوريا كما أشيع». وربما تشترك الدول العربية عموما بهذه الهواجس ذاتها، لكنها في الحالة المصرية وفق وصف نعناع «تبدو مضاعفة» عازيا السبب إلى الاعتقاد المصري بمركزية الدور المصري في الشرق الأوسط، وهي مركزية فائتة لم تعد قائمة بالشكل ذاته، وإن كانت حاضرة في مناسبات مختلفة، لكنها لم تعد تلك المركزية الناصرية التي تجعل من الحكومة السورية حريصة على ضمان تأييد مصر، وإن كانت الحكومة السورية حريصة على علاقات طبيعية وودية مع كل الدول العربية، لكنها ربما لم تقدم لمصر ما ظنت أنها تستحقه: أمنياً، وسياسياً، ومكانة شرق أوسطية. لكن لا أظن أن موضوع المكانة كثير الأهمية في الموقف المصري، كما هي بقية العوامل، بل يمكن وضع مسألة المكانة في ذيل القائمة، ولو كان كذلك، لكانت الخارجية السورية بادرت بزيارة مصر مبكراً. وقال: هناك أحاديث عن انزعاج مصري سابق من موقف «هيئة تحرير الشام» ذاتها من الإخوان المصريين وتأييدهم للحركة، لكن ذلك كان في زمن مضى، فيما يتسم نهج الحكومة السورية منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 بالمبادرة تجاه القوى الإقليمية والدولية، وبمحاولة طي ما سبق، ومد الجسور نحو المحيط العربي. وقال: من جهة أخرى، لن يكون الموقف المصري على كثير من الاختلاف عن الموقف في عدة دول عربية، سواء انفتحت على دمشق أم لا تزال متحفظة، فجميعها في حالة ترقب لمجريات الأحداث السورية، مستخدمة جملة معايير للحكم على المرحلة المقبلة، وأهمها قدرة الشرع على فرض سيادة الدولة السورية وتسوية التهديدات الأمنية القائمة، ونوعية الإسلام السياسي الذي سيتبلور في الشارع السوري، وإن كانت مصر أكثر حساسية لهذه الجماعات، لكن وجود إسلام سياسي تتم إعادة إنتاجه بشكل أكثر مدنية وانفتاحاً (على النمط التركي ربما) غير معادٍ للحكومات العربية، وغير ثوري أو مُستَقطِب لقوى خارجية، قد يخفف من قلق العرب (والسوريين أيضاً). إضافة إلى مسألة تصدير «النموذج الثوري» السوري، وخصوصاً أن ما حدث في سوريا هو امتداد للربيع العربي الذي شهد موجتين (2011، 2019) واستقرار سوريا قد يشجع على التخطيط لموجة ثالثة في بعض الدول، عبر تحويل الحالة السورية إلى نموذج يحتذى به. ولا يبدو حتى الآن أن هناك رغبة في الشارع السوري والحكومة، بتحويل سوريا إلى «نموذج» سواء عبر الاحتذاء أو الاستقطاب أو الرعاية. وعن تاريخ العلاقات السورية ـ المصرية قال المتحدث: شهدت العلاقات المصرية-السورية فترات من الاضطراب والعداء والقطيعة، ربما كان أشدها بعد الانفصال (1961-1967) وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979-1990) ونتمنى ألا تكون هذه فترة أخرى. وهناك مؤشرات مقبلة يمكن الاستفادة منها في فهم الموقف المصري، وخصوصاً مع أول اجتماع يجري في جامعة الدول العربية (بغض النظر عن مستوى التمثيل والاجتماع) لكنه سيكون دليل عمل لفهم الموقف المصري التقليدي بشكل أوضح. منشور ضمن تحقيق صحفي، صحيفة القدس العربي 7 شباط/فبراير 2025 على الرابط التالي: https://www.alquds.co.uk/%d9%85%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d9%88%d8%a7%d8%ac%d8%b3-%d9%88%d9%85%d8%b9%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d8%b1/?fbclid=IwY2xjawISkjFleHRuA2FlbQIxMAABHfjVDKctScYyhYWYQFygpkdB5YmsmRKllj9iA1nP3CYjwhzVeMVhf-2Isw_aem_NWxceJhYOYG5Ag8jtcP0Uw

السعوديون بطبعهم شعب مضياف، وكل من عاش في تلك البلاد يدرك ذلك تماماً. لكنهم في ذات الوقت يتميزون بالهدوء والتأني في اتخاذ قراراتهم، لا سيما في القضايا السياسية، ويميلون إلى دراسة المعطيات بدقة قبل الالتزام بخطوات طويلة الأمد. هذا النهج يختلف إلى حد ما مع النهج السوري، حيث يتسم السوريون بسرعة الإيقاع، والسعي إلى الإنجاز المتسارع، وتحمل الأعباء الكبيرة، مما يجعلهم أكثر اندفاعاً في بعض المواقف. وتعكس الزيارات السورية المتكررة إلى السعودية، بوضوح، رغبة دمشق في إعادة تموضعها ضمن الفضاء العربي، وخاصة في الخليج (وتحديداً السعودية)، مع التأكيد على فك الارتباط مع المشروع الإيراني، الذي لطالما اعتُبر مصدر تهديد رئيس للمنطقة. ويفهم هذا التحول أيضاً في سياق التوازنات الإقليمية، حيث تسعى سورية إلى طمأنة العواصم العربية بأنها ليست مجرد امتداد لنفوذ تركي في المنطقة. في هذا السياق، تحاول الإدارة السورية الجديدة إغلاق أي أبواب محتملة للصدام مع الدول العربية، وهو ما يتجلى في زيارة الإمارات، والنهج الهادئ تجاه مصر، إلى جانب زيارة الأردن وقطر والانفتاح على الكويت والبحرين ولبنان، وباقي المحيط العربي. إلا أن السعودية تظل الفاعل العربي الأبرز في المشهد السوري الخارجي، حيث يحمل التحول السوري معها انعكاسات مباشرة على موازين القوى الإقليمية، مما يستقطب الرياض، سواء أرادت ذلك أم لا، لتكون جزءاً من معادلة إعادة ترتيب المحاور في الشرق الأوسط، وهي معادلة لا تزال قائمة منذ النصف الثاني من القرن الماضي. ورغم الاحتفاء السعودي الرسمي بالوفود السورية، إلا أن الحذر يظل السمة الأبرز في السياسة السعودية تجاه دمشق (إعلامياً وسياسياً)، وهو حذر لا يقتصر على السعودية وحدها، بل ينسجم مع الموقف الدولي والإقليمي الأوسع، سواء الأوروبي أو الأمريكي أو العربي. فمن الواضح أن الرياض ليست في عجلة من أمرها لتقديم التزامات طويلة الأمد، قبل اختبار مدى استقرار الإدارة السورية الجديدة، وقدرتها على الحكم الفعلي، ومدى اتساق خطابها السياسي مع ممارساتها على الأرض. كما أن هناك مخاوف من مسألة "تصدير النموذج"، التي تثير حساسية لدى عدد من الدول العربية. وإلى جانب البعد السياسي، هناك أيضاً اعتبارات اقتصادية وأمنية في التأني السعودي، حيث تراقب الرياض الوضع الاقتصادي في سورية ومدى استقراره قبل الانخراط في أي مشاريع استثمارية، كما تأخذ في الحسبان الملفات الأمنية المعقدة في المنطقة. وترقب السعودية أيضاً مواقف دول أخرى مثل مصر والإمارات وتركيا تجاه سورية. حتى الآن، تبدو الخطوات السورية متماشية إلى حد كبير مع خطابها المعلن، مما يقلل من المخاوف الإقليمية، لكن هذه المخاوف لن تتلاشى بالكامل قريباً. فالتطورات المقبلة داخلياً وخارجياً ستحدد ما إن كان هذا المسار سيستمر، أم أن المنطقة ستشهد تقلبات جديدة في المشهد السوري. لكن من المؤكد، أن الزيارة الأولى للسعودية، هي خطوة موفقة من الإدارة السورية داخلياً وخارجياً، وتفتح آفاقاً مغلقة، وتحضِّر البلاد لعلاقات طبيعية في الشرق الأوسط، ومن المؤكد أن السعودية شرعت أبوابها للقيادة السورية الجديدة، وترحب بخطواتها المتتالية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية

شهد القرن الماضي انقساماً بين شكلَي نظام حكم: عسكري انقلابي (سُمِّي بالجمهوري)، وآخر ملكي وراثي (على اختلاف مسمياته)، وامتاز كل منهما بسمات خاصة، ففيما اتّجه الأول نحو ما عُرِف بالنموذج الناصري للتنمية: أي أنّ الدولة هي المسؤولة عن عمليات التنمية والاقتصاد والتحرير ومحاربة الصهيونية والتصدي للإمبريالية العالمية وتحقيق أهداف الثورة/الانقلاب مقابل عدم تدخل العامة في الشأن السياسي إلا عبر السلطة وحدها، كان النموذج الآخر أقل وعوداً من نظيره، أي أنه لم يُحمِّل نفسه كثير مسؤولية أمام شعوبه واكتفى بخطاب التنمية والسيادة، لكنه أغلق هو الآخر المجال العام (في معظمه، حيث حافظت ملكيات كالأردن والكويت والمغرب على حيز لا بأس من المجال للاشتغال السياسي). ونلحظ اليوم بروز ما يمكن أن يكون نموذجاً ثالثاً، وهو أقرب إلى أن يكون حالة وسط بين النموذجين السابقين، عبر خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، من خلال خطابه المقتضب الذي تحمّل فيه مسؤولية المرحلة الانتقالية، محدِّداً المهام التي سيتصدّى لها (والمُساءلة عنها لاحقاً)، في نقاط شملت تحرير كامل التراب السوري، مع وعود بالتنمية، وأخرى بالعدالة والسلم الأهلي، ورابعة بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وخامساً استعادة مكانة الدولة والمواطن السوري. وهي وعود جديرة بالتقدير والمشاركة التي طالب الجميع بها باعتبار كل السوريين (كلنا) شركاء في النصر. إذاً، أصبح لدى القوى السورية برنامج عمل تستدرك فيه مسار السلطة في السنوات القادمة أولاً، ومحددات مسبقة لمحاسبة السلطة ثانياً، وقضايا أخرى كثيرة –لم يتمّ التطرق لها– يمكن بناء مشاريع سياسية عليها ولأجلها، وهو ما يشبه رمي الكرة في ملعب النخب والقوى السياسية السورية. أي أن المرحلة القادمة تتطلب تحركاً نخبوياً واسعاً لوضع السلطة أمام الاختبار الفعلي: اختبار إطلاق المجال العام أمام الاشتغال السياسي، واختبار الشراكة التي جاءت في الخطاب، واختبار قدرة النخب ذاتها ومصداقيتها في العمل لأجل البلاد ونهضتها أيضاً. فلا يمكن تصور أن تنجِز السلطة وحدها هذه الوعود، فيما تُحجِم القوى السورية عن الانخراط بدورها التاريخي، أو أن تنشغل بتعظيم مصالحها (قوى وأفراداً)، إذ إنّ محاسبة السطلة تستوجب بدروها محاسبة النخب "الشريكة" للسلطة في المسؤولة. رغم تأخر الخطاب، وقد يكون ذلك لأسباب تتعلق بحجم الانتقال التاريخي الذي شهدته سورية، لكنه يشكل بداية لنا –نحن السوريين– جميعاً لنبدأ العمل على إعادة بناء الدولة والتاريخ السوري. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية

ما يزال المشهد السوري مُضطَرباً في غالبية جوانبه: السياسية والاقتصادية والأمنية، وليس من المتوقع أن يشهد استقراراً مُستداماً في القريب العاجل. فيما تتحمّل السلطة جزءاً مهمّاً من هذه الفوضى، لكثير أسباب، منها: عدم المساهمة في توضيح الصورة للمجتمع السوري المترقِّب، وترك فراغٍ تملؤه فوضى الشائعات والوسطاء. وحتى خطاب النصر المُنتظَر منذ خمسين يوماً، أتى بذات الفوضوية، صحيح أنه بقي في سياقه المتوقع منه، لكنه خرج عن بعض نصوص ما كان مُنتَظراً. فبداية، لم يأتِ الخطاب خارجاً السياق الذي حدثت فيه التغيرات السورية الكبرى خلال الشهرين الماضيين، والتي كانت انتصاراً عسكرياً سريعاً وحاسماً، أقرب إلى حالة انقلاب عسكري لمجموعة منظَّمة على نظامٍ بالٍ ما كان قابلاً للحياة، أكثر منه انتصار ثورة شعبية اجتاحت الشوارع والمدن وأسقطت الطاغية، ولا ضير في ذلك، طالما أنّ الطرفين متفقان على هذا الهدف وعنده. إذاً، ما سيجري بعد التحرير/إسقاط النظام، مبنيٌّ على هذه المقدمة، وهنا نضع الأمر في سياق الانقلابات العسكرية المعهودة في التاريخ السوري، رغم خصوصية/تمايز الزمان والجماعة والآليات والبيئات. وفي هذا السياق، أتى ما كان متوقّعاً بالضبط، احتكار السلطة الانتقالية في يد الجماعة الانقلابية، وما عدا ذلك أمر غير ممكن، وما المطالبة بالشراكة والانتخابات والانفتاح (الآن)، ما هو إلا ضرب من الفوضى في هذه المرحلة، لن يقبل بها أصحاب القوة. فمن طبيعة الانقلابات أن تضع السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، في يدها عبر زعيمها أو عبر مجلس عسكري يدير البلاد، ويتخذ جملة إجراءات استثنائية ذات طابع مؤقت: دستور مؤقت، هيئة تشريعية مؤقتة، حكومة مؤقتة، وهنا لا كثير فرق بين المؤقتة والانتقالية، فكلاهما مرحلي وليس مستقراً. لكن هناك خروجاً محموداً عن أدبيات الانقلابات المعهودة، عبر غياب حالة الطوارئ المترافقة بالأحكام العرفية، وإن كان هناك شكوك وشكاوى من طبيعة إجراءات السلطة القضائية المؤقتة. إذاً، خطاب النصر أتى كما يجب أن يأتي، وأتى في سياق ذات الخطابات الانقلابية كلها: "إنما نحن انتصرنا للشعب ولقضاياه العادلة". وحيث أنه خطاب يهيئ المجال للمرحلة الانتقالية فإن لا كثير تعويل عليه، خارج ما قال به الشرع أولاً: ملء الفراغ السلطوي، السلم الأهلي، بناء مؤسسات الدولة، العمل على بنية اقتصادية تنموية، استعادة المكانة الدولية والإقليمية. أو في الإعلان ذاته: حل كل القوى السياسية والعسكرية والأمنية السابقة، والبدء بالتأسيس من جديد. لكنه أيضاً أغفل مواضيع بالغة الأهمية (وربما الخطورة) ينتظر الجمهور البتّ فيها، ومنها: محاسبة المجرمين، وتوحيد سورية. كما أنه ثانياً لم يظهر كما يجب أن يظهر: أي أنه لم يُوجَّه إلى الشعب السوري مباشرة، مع غياب أي خطاب تعويضي من السلطة للشعب، بل الإصرار على ترك فجوة بين السلطة والشعب تملؤها جهات وسيطة سيكون لها دور غير حميد لاحقاً. وربما يكون ثالث الاعتراضات أنه لم يتأسس على إعلان دستوري مؤقت، وهنا (حيث سلطة الأمر الواقع) فلا كثير فرق بين من يأتِ أولاً. أما الاحتجاج الرابع الأبرز، فهو غياب أطر زمنية للمرحلة الانتقالية، ولا أظن أن نظاماً انقلابياً يرغب بتسليم السلطة، فكيف بوضع جدول زمني لذلك. ويذهب الاحتجاج الخامس، إلى غياب مصطلحات تأسيسية للمرحلة القادمة: ديموقراطية، حقوق إنسان، حريات، انتخابات، عدالة، وهو –وفق ما أرى- أكثر الاحتجاجات صواباً ومداعاة للقلق من توجهات السلطة. فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. ختاماً، لم يأت خطاب النصر خارج ما كان متوقعاً، ورغم أنه لم يأت كما كان متوقعاً بالضبط، إلا أنه وعبر إزاحة نظام إجرام طائفي شرس، فإنه يمنح الشعب مبررات جديدة للاحتفال، لا بالسلطة بل بالمنجز ذاته، على أن الوظيفة القادمة في مراقبة السطلة الانقلابية المؤقتة تبقى مسؤولية النخب السياسية السورية، التي يناط بها تشكيل المجال العام والمناخ السياسي والحواضن المجتمعية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية

على مدى ستة عقود، عمل النظام البائد على تجريف المجال العام، ما أدى إلى تغييب طويل لأي بيئة صحية تسمح بتطور نخب وطنية فاعلة ومستقلة. ورغم نجاح عمليات التجريف هذه في إنتاج فراغ فكري وسياسي كبير، إلا أن النخبة السورية لم تُلغَ بشكل كامل، وظلت حاضرة في الظل أو في الشتات. لكن في ذات الوقت، نتج جيل جديد من النخب المشوهة بالفساد والانتهازية، هيمنت على العديد من المؤسسات التي برزت بعد 2011، بما في ذلك بعض المؤسسات "الثورية"، إلى جانب نخب نكوصية ما تزال حبيسة القرن الماضي (حبيسة لحظة الاستقلال). أعتقد أن المشهد النخبوي قبل وصول البعث إلى السلطة كانت أكثر تنوعاً وتمثيلاً لاتجاهات فكرية وأيديولوجية متعددة، تميزت بانتمائها إلى تيارات قومية ويسارية ودينية، إضافة إلى نخب ليبرالية ذات تأثير محدود. كما ضم المشهد نخباً عسكرية وشخصيات من الأعيان، فضلاً عن أشكال أخرى من القيادات المجتمعية والسياسية (ماسونية، إقطاعية، ريفية، إثنية، ...) أسهمت في تشكيل الحياة العامة وتوجيه الأحداث الوطنية. وكان تنوع هذه النخب، رغم اختلافاتها، يعكس حيوية اجتماعية وفكرية افتقدتها البلاد لاحقاً بعد عقود من حكم شمولي سعى لتقويض هذا التنوع وتقليص المساحة العامة. رغم الأمل الكبير في دور النخب السورية اليوم، إلا أن المشهد يتسم بالتداعي والصراع الداخلي. من أبرز مظاهر هذا التداعي السعي المحموم للحصول على حصة من "الكعكة السورية" بدلاً من العمل على طرح مشاريع سياسية بناءة، سواء بالتعاون مع السلطة أو بشكل مستقل عنها. هذا التنافس على المكاسب الشخصية يقف في وجه العمل الوطني الجماعي الذي تحتاجه البلاد بشدة. فيما يواجه جزء كبير من النخب الوطنية المستقلة صعوبات تحول دون عودتهم الفورية إلى سورية، بينما يسعى آخرون إلى احتكار المجال العام وتوجيهه لخدمة مصالحهم الضيقة، فالعصبية والانتماءات الضيقة، بالإضافة إلى الارتهان لأجهزة الاستخبارات، تبقى من أبرز نقاط ضعف المشهد النخبوي السوري. أما وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أضافت تحدياً جديداً عبر خلق "نخب شعبوية" تتغذى على التفاعل السريع بدلًا من الفعل العميق. في حين تواجه النخب السورية تحدياً كبيراً في استعادة ثقة الشعب، وهو ما يتطلب تواصلاً حقيقياً يتجاوز الخطاب النخبوي المنعزل عن هموم المواطنين. ولا يمكن بناء الثقة دون انخراط فعلي مع المجتمع، والاستماع إلى تطلعاته، وتقديم حلول واقعية تعالج معاناته. ورغم قتامة هذا المشهد، تبقى الفرصة قائمة لنهوض جديد يعيد للنخب دورها القيادي عبر تحمل مسؤولياتها الوطنية والعمل على مشاريع تعزز التغيير وتدفع نحو مستقبل أفضل. فالنخبة السورية اليوم بحاجة إلى إعادة بناء ووعي جديد يعيد للمجال العام دوره ويصنع نخباً مسؤولة تحمل مشروعًا وطنياً جامعاً. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية

منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. وهنا لا أتحدث عن "انتخابات" فهذه شكل أو أداة من أدوات الديموقراطية، فيما يقع كثير في هذا الخطأ بالقول إن وجود انتخابات وفوز أكثرية إثنية هو حصل الديموقراطية الموعودة، وعلينا إقفال الباب على ذلك. هذه الديموقراطية، لا يمكن لها الظهور أو النمو في بيئات غير حاضنة لها، أو غير ديموقراطية، فحديث الائتلاف (الذي طالما كان إقصائياً) عن الديموقراطية هو مهزلة سياسية. وحديث اليمين الإسلامي المتطرف هو كذلك، وحديث النخب الاستعلائية والقمعية أيضاً، وأحاديث بعض الأقليات عن عدم قبول الآخر واشتراطات تفكيكية وغير عقلانية هو في ذات المسار. أي أن البيئة السورية في حد ذاتها –اليوم على الأقل– هي بيئة غير منتجة وغير حاضنة للديموقراطية، مع التذكير بأن الديموقراطية ليست صندوقاً يطوف حوله المواطنون. لذا، فإن الحلم الديموقراطي السوري، لن يبدأ من قبل السلطة أولاً، بل من قبل المجتمع، وذلك عبر تبني أسس الديموقراطية وآلياتها فيما بينه من جهة، وفي منزله وعمله وأسرته وحزبه ونقابته، حتى يصل إلى مرحلة الاقتناع بنفعية الديموقراطية للجميع، وحينها سيكون مستعداً لقبول نتائجها (الخسارة أو الربح)، ثم يبدأ مسار الضغط على السلطة بهذا الاتجاه، وتتشكل الموالاة والمعارضة على هذا الأساس (وليس على أسس إثنية). في حالات أخرى، تكون نخب السلطة ذاتها ذات ميل ديموقراطي (وهو أمر غير متوفر حتى الآن في سورية). كما أن غياب الطرف المجتمعي/النخبوي الديموقراطي الآخر، سيدفع السلطة إلى تأجيل الدمقرطة قدر الإمكان، والاستئثار بالسلطة. بالإجمال، هناك الكثير من المعارك السياسية التي علينا خوضها في الأشهر والسنوات القادمة، قبل الوصول إلى الحلم الديموقراطي المنشود (هذا إن كان حلماً للجميع)، وما الأصوات التي تحاول قمع حريات التعبير التي تتشكل اليوم، إلا مساعٍ من أطراف سياسية أو من قوى شعبوية لمنع تهيئة البيئة السورية لاحتضان غرسة الديموقراطية (تحت شعارات أشبه بشعار: لا صوت يعلو على صوت المعركة). د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية