الأرجنتين: البنى الداخلية والعلاقات الخارجية

 



أولاً: البيئة السياسية المحلية

 حافظت الأرجنتين على موقعها كدولة حرة منذ أن انطلق استبيان دار الحرية Freedom House، ورغم الاضطراب المحدود الذي شهدته خلال الفترة 1998-2003، إلا أنها في مرحلة ثبات مرتفعة في مستوى الحرية، وفي مستوى أقل بقليل من أعلى قيمة استطاعت تحقيقها.

شكل رقم (1)

 


 إلا أن الإشكال التي تعيشه الأرجنتين، هو مستوى الفساد المرتفع في الدولة حيث تحتل المرتبة 85 عالمياً من أصل 180 دولة، بقيمة مؤشر إدراك فساد تعادل 39 نقطة من أصل 100 نقطة، وذلك وفق منظمة الشفافية الدولية Transparency International، أي أنها في الثلث الأدنى عالمياً (تقريباً) على مستوى القيمة وليس الترتيب، في مستوى مكافحة الفساد، وسيتجلى ذلك بوضوح في نقاط لاحقة عديدة.

فوفق دار الحرية، قوبلت الاحتجاجات ضد الاقتصاد الضعيف وضد اختفاء ناشط في مجال حقوق السكان الأصلي، في أغسطس 2017، بقوات شرطة غير متناسبة مع حجم التظاهرات.

في حين واصلت حكومة ماكري جهودها لاستعادة مصداقية الاقتصاد الكلي للبلاد من خلال برنامج تعديل صعب، أدى إلى تآكل الأجور الحقيقية، إلى جانب فضائح الفساد الشائعة، حيث اتُهم العديد من أعضاء الطبقة السياسية -بمن فيهم الرؤساء السابقون- أو أدينوا بالذنب في السنوات الأخيرة.

ومع ذلك، فإن ضعف هيئات مكافحة الفساد وتسييس النظام القضائي يعوقان الضمانات المؤسسية ضد الفساد، حيث يتمتع العديد من السياسيين بالحصانة فيما يتعلق بمناصبهم، وبالتالي فهم محميون من العواقب القانونية على السلوك الفاسد.

وعلى رأس ذلك، ما تواجه الرئيسة السابقة كريستينا فيرنانديز دي كيرشنر، من عدة مزاعم بالفساد، حينما كانت في منصبها، وتشمل هذه الاتهامات التي قُدمت في إبريل 2017: غسيل الأموال، وقيادة منظمة غير قانونية، فيما يتعلق بصفقات عائلتها والعقارات الخاصة بها.

ولا تزال قضية الاحتيال المنفصلة المرفوعة ضدها في عام 2016 مفتوحة، والتي تشمل ادعاءات حول بيع الدولار بشكل غير منتظم من قبل البنك المركزي قبل انتخابات 2015. فيما ترفض هي التهم الموجهة إليها سياسياً، مستترة بالحصانة البرلمانية التي تحملها. إلا أنه في ديسمبر الفائت أمر قاضٍ باعتقالها وطلب من مجلس الشيوخ رفع حصانتها، حيث صدر الأمر بتهم تتعلق بالخيانة المتعلقة بدورها المزعوم في تغطية تورط إيران المحتمل في تفجير مركز الجالية اليهودية في بوينس آيرس عام 1994، والذي قُتل فيه 85 شخصاً.

كما واجه العديد من المسؤولين الحكوميين المرتبطين بإدارات كيرشنر اتهامات بالفساد تتعلق بتحقيق أودبريشت في أمريكا اللاتينية، حيث اعترفت شركة أودبريشت، وهي شركة بناء برازيلية، بدفع رشاوٍ للفوز بعقود الأشغال العامة. بالإضافة إلى ذلك، كشفت صحيفة لا ناسيون في إبريل 2017 أن الرئيس الحالي ماكري قد قبل مبلغ نصف مليون دولار من أودبريشت في حملته الانتخابية عام 2015، لكن الشركة دافعت عن الدفع باعتباره قانونياً.

وتعاني الأرجنتين من أوجه القصور والتأخير في النظام القضائي، حيث يمكن أن يخضع النظام للتلاعب السياسي، ولا سيما في المستويات الدنيا. ومع ذلك، حافظت المحكمة العليا على استقلال نسبي، وقامت بالعدول عن تجاوز إدارة كل من كيرشنر وماكري.

لكن التحديث الأهم في البنية القضائية، هو السماح بمقاضاة الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت خلال الدكتاتورية 1976–1983. وقد أدين العشرات من ضباط الجيش والشرطة بالتعذيب والقتل والاختفاء القسري، وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة، مما ساعد على محاربة ثقافة الإفلات من العقاب.

غير أن أجهزة الشرطة ما تزال تواجه ضغوطاً من الجهات السياسية الفاعلة، إلى جانب بعض من تواطؤ الشرطة مع مهربي المخدرات. إذ ظل العنف المرتبط بالمخدرات يشكل قضية خطيرة عام 2017، حيث استخدمت المنظمات الإجرامية الدولية الدولة كقاعدة تشغيلية وطريق مرور، وخصوصاً في مناطقها الشمالية والوسطى.

يترافق ذلك، مع سوء سلوك الشرطة، بما في ذلك التعذيب والوحشية ضد المشتبه بهم في الحجز، حيث بات أمراً مستوطناً في الأرجنتين، في ظل سجون مكتظة، ونادراً ما يُعاقب الشرطة على الاعتقالات التعسفية وسوء المعاملة، رغم الملاحقة بذات التهم عن فترات سابقة.

من المشاكل السياسية الأخرى التي تشهدها الدولة، هي انتهاك وإهمال حقوق الشعوب الأصلية، التي تشكل نحو 2.4% من السكان، وتعاني هذه الشريحة بشكل غير متناسب من الفقر المدقع والمرض، حيث أن 11 ولاية فقط من أصل 23 في الأرجنتين لها دساتير تعترف بحقوق الشعوب الأصلية.

ولا يزال العنف ضد المرأة يمثل مشكلة خطيرة، فوفقاً للمحكمة العليا، توفيت 254 امرأة نتيجة للعنف القائم على نوع الجنس في عام 2016. وما زال النشطاء ينظمون احتجاجات وأحداث بارزة بهدف لفت الانتباه إلى المشكلة.

ومن المشاكل الأخرى في الدولة، هو لجوء بعض قطاعات الصناعات التي تنتج الفحم النباتي والطوب إلى العمل القسري للرجال والنساء والأطفال، سواء أكانوا عمالاً من الأرجنتين أو من البلدان المجاورة. ويمتد العمل القسري إلى القطاع الزراعي وعمال المنازل والباعة المتجولين.

يضاف إلى كل ما تقدم، تعرض الرجال والنساء والأطفال للاتجار بالجنس، رغم ما اتخذته الحكومة من خطوات لتحسين تمويل البرامج لمساعدة ضحايا الاتجار بالبشر وتوعية الجمهور بالمشكلة.

هذا الإشكاليات المستوطنة في الأرجنتين، كان لها انعكاس واضح على مستوى استقرار الدولة، الذي شهد اضطرابات لعقد كامل، قبل أن يبدأ بالاستقرار والتحسن تدريجياً، بل والقفز سريعاً إلى قيم بعيدة عن مرحلة فشل الدولة، وخصوصاً في عام 2018.

حيث احتلت الأرجنتين على مؤشر الاستقرار لصندوق السلام Fund for Peace، المرتبة 141 من أصل 178 دولة (ترتيب تنازلي).

شكل رقم (2)

 


في ظل ارتفاع أدائها نقطتين عام 2018، وأقل من نقطة في عام 2017، وبمجمل خمس نقاط تقريباً خلال العقد الفائت، إلا أنها عموماً تظل في مستوى الدولة المستقرة (46.1 نقطة)، رغم كل الاضطراب الذي شهدته.

شكل رقم (3)

 

 

 ترافق تحسن مستوى الاستقرار السياسي مع فوز تحالف "لنُغيّر" برئاسة الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري في الانتخابات التشريعية لمنتصف الولاية في الأرجنتين، وفق ما أظهرت نتائج جزئية رسمية، حيث حلّ التحالف (يمين وسط) في الطليعة في 15 ولاية، خصوصاً في العاصمة.

وفي لقاء انتخابي، قال الرئيس: "نحن في مستهل طريق طويل"، ملمحاً بذلك الى الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة التي تجرى منذ ديسمبر 2015. فمنذ انتخابه قبل سنتين، أدخل ماكري تغييرات على ثالث اقتصاد في أميركا اللاتينية عبر تحريره، في سياسة كانت لها آثار سلبية في البداية قبل أن ينتعش النمو الذي بلغت نسبته 1.6% في النصف الأول من 2017.

فيما لم تتمكن الرئيس السابقة من الاستفادة من استياء الشعب الأرجنتيني الذي ضعفت قدرته الشرائية بسبب التضخم، الذي واجهت الحكومة صعوبة في وقفه.

 

ثانياً: الإشكاليات الاقتصادية

 

رغم ما شهدته البيئة السياسية من اضطرابات إلا أنها تظل أكثر استقراراً من البيئة الاقتصادية التي تعيش تحت وطأة تهديد اضطراب أكثر شدة باتت مؤشراته تلوح أكثر فأكثر، رغم ما تسجله الأرجنتين من بعض المؤشرات الإيجابية العليا في اقتصادها، ومنها وفق بيانات البنك الدولي.

شكل رقم (4)


 

ووفق البيانات السابقة، فإنه رغم ارتفاع الدخل القومي والناتج المحلي، إلا أن الدولة تشهد ارتفاعاً كذلك في ديونها الخارجية، ومستوى البطالة، في ظل انخفاض مستويات الادخار فيها.

عدا عن أن التضخم ما يزال مرتفعاً، وهو ما يعتبر واحدة من أكبر الإشكاليات عام 2018، في ظل مؤشر حقوق ما يزال ضعيفاً للغاية.

ويتمثل الإشكال الاقتصادي الذي تعيشه الأرجنتين فيما قامت به العام الماضي، من خطوات نحو الإصلاح الاقتصادي، من خلال بيع سندات دولية بآجال 100 عام، لكن مع نهاية العام الماضي وبداية عام 2018، تدهورت الأوضاع الاقتصادية في الأرجنتين بشكل لافت.

وتعود المشكلة إلى عدم استقرار الاقتصاد منذ الأزمة التي عصفت به مطلع القرن الحالي، ثم إلى إجراءات الرئيس الحالي منذ أن وصل إلى السطلة عام 2015، وسعيه لخفض سعر الصرف بأكثر من 50% وتخفيض جزء كبير من الدعم على المحروقات، وهذا ساعد على جذب استثمارات أجنبية سواء كانت مباشرة أو في أذون الخزانة ونمو الاحتياطي النقدي لديهم، ودون الاستعانة بصندوق النقد الدولي.

إلى أن ارتكبت الحكومة والبنك المركزي في الأرجنتين خطأ من وجهة نظر المستثمرين، وهو خفض سعر الفائدة قبل السيطرة على معدلات التضخم. ورغم كل المحاولات اللاحقة للسيطرة على التضخم، إلا أنه استمر في الارتفاع بحدة، بعيداً عن المستويات المستهدفة، وفي نفس الوقت لجأ البنك المركزي لخفض سعر الفائدة، وهو ما أنهى مصداقية البنك المركزي لدى المستثمرين، وهو ما سيترك أثراً لاحقاً على الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي يعاني طيلة سنوات من عدم الاستقرار.

شكل رقم (5)


ومع تدهور الأوضاع عاد البنك المركزي إلى رفع الفائدة مرة ثانية في محاولة للسيطرة على التضخم لتصل نسبتها إلى 40%. وهو ما دفع المستثمرين الأجانب لبيع استثماراتهم ولم يعد هناك ثقة في العملة المحلية من قبل المستثمرين المحليين. وفي محاولة لإنقاذ اقتصادها، سعت الأرجنتين للاستعانة بصندوق النقد، بغية الحصول على قرض بقيمة 30 مليار دولار.

وقد خضعت الأسواق المالية في الأرجنتين لضغط مفاجئ في شهر إبريل الماضي، بفعل طائفة من العوامل:

-      الجفاف الحاد الذي أدى إلى تراجع حاد في الإنتاج الزراعي وإيرادات التصدير.

-      زيادة أسعار الطاقة العالمية.

-      الاحتياجات الكبيرة لتمويل المالية العامة والتمويل الخارجي.

-      الأوضاع المالية العالمية التي زادت ضيقاً بعد ارتفاع سعر الدولار الأمريكي والتحول إلى رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة.

وتجسدت هذه العوامل الاقتصادية بشكل أساسي في صورة ضغوط على البيزو الأرجنتيني، وقلق السوق إزاء احتمال تمديد سندات البنك المركزي قصيرة الأجل، وزيادة علاوة المخاطر السيادية على السندات الأرجنتينية.

وفي يونيو، وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي على اتفاق للاستعداد الائتماني مع الأرجنتين، وذلك لمدة ثلاث سنوات وبقيمة تبلغ 50 مليار دولار أمريكي (ما يعادل 35.379 مليار وحدة حقوق سحب خاصة، أو حوالي 1.110% من حصة عضوية الأرجنتين في صندوق النقد الدولي).

حيث يتيح قرار المجلس للسلطات القيام بعملية شراء فورية لمبلغ 15 مليار دولار أمريكي (ما يعادل 10.614 مليار وحدة حقوق سحب خاصة من حصة عضوية الأرجنتين)، على أن يستخدم نصفها (7.5 مليار دولار أمريكي) في دعم الميزانية. أما بقية الدعم المالي المقدم من الصندوق (35 مليار دولار أمريكي) فيُصرَف على مدار الفترة التي يغطيها الاتفاق، على أن يخضع ذلك لمراجعات ربع سنوية من جانب المجلس التنفيذي.

ويبدو أن السلطات تهدف في خطتها الاقتصادية إلى تقوية الاقتصاد الوطني، واستعادة ثقة السوق عن طريق برنامج اقتصادي كلي متسق، يخفف الاحتياجات المالية، ويضع الدين العام على مسار تنازلي ثابت، ويعزز الخطة الموضوعة لتخفيض التضخم، بإرساء أهداف أكثر واقعية له ودعم استقلالية البنك المركزي.

وعموماً، يهدف دعم الصندوق للخطة الاقتصادية إلى تقوية اقتصاد الأرجنتين بالتركيز على أربع دعائم:  

-      استعادة ثقة السوق: من خلال ضبط أوضاع المالية العامة، مع إجراء ضبط كبير في الرصيد الفدرالي، لتأمين الوصول إلى عجز أولي قدره 1.3% عام 2019.

-      حماية أضعف شرائح المجتمع: من خلال تقوية شبكات الأمان الاجتماعي، وإعادة تصميم برامج المساعدات، مع حماية مستوى الإنفاق الاجتماعي.

-      تعزيز مصداقية إطار استهداف التضخم الذي يعتمده البنك المركزي: من خلال إتاحة الاستقلالية المؤسساتية والتشغيلية التي يحتاجها البنك المركزي.

-      الحد بالتدريج من الضغوط الواقعة على ميزان المدفوعات: ينطوي هذا على إعادة بناء الاحتياطيات الدولية وتخفيض تعرض الأرجنتين للضغوط على الحساب الرأسمالي.

هذه الاضطرابات الاقتصادية الأخيرة، إلى جانب إشكاليات بنوية مترسخة في الاقتصاد الأرجنتيني طيلة العقود الماضية، والتي لم تتم معالجتها بطرق سليمة، حيث عاودت للظهور في مناسبات عدة، سواء أكانت بالترافق مع أزمات سياسية، أو دون ذلك. في مجملها أدت إلى انخفاض تصنيف الأرجنتين في مؤشر الحريات الاقتصادية، حيث احتلت المرتبة 144 من أصل 180 دولة، وبقيمة لم تتجاوز (52.3%) وهي تمثيل لقيمة (غالباً غير حرة)، وذلك على مؤشر الحريات الاقتصادية الصادر لعام 2018 عن Heritage.

شكل رقم (6)

 


حيث يمكن ملاحظة النقاط التالية في هذا المؤشر:

-      مؤشر حكم القانون:

o      تحسن في حقوق الملكية. (غير حرة)

o      تراجع في نزاهة الحكومة. (غير حرة)

o      تحسن في فعالية القضاء. (غير حرة)

-      مؤشر حجم الحكومة:

o      تحسن في الإنفاق الحكومي. (غالباً غير حرة)

o      تحسن في مستويات العبء الضريبي. (معتدلة الحرية)

o      تراجع في أداء الصحة المالية. (غالباً غير حرة)

-      مؤشر الكفاء التنظيمية:

o      تراجع في حرية الأعمال. (غالباً غير حرة)

o      تراجع في حرية العمال. (غير حرة)

o      تحسن في الحريات النقدية. (غالباً غير حرة)

-      مؤشر انفتاح الأسواق:

o      تحسن في مستويات التجارة الحرة. (معتدلة الحرية)

o      تحسن في حرية الاستثمار. (غالباً غير حرة)

o      تحسن في حرية التمويل. (معتدلة الحرية)

ويمكن ملاحظة أثر ذلك، في كثير من المؤشرات، على رأسها كذلك، مؤشر Standard & Poor's، الذي يشهد تذبذباً وعدم استقرار، طيلة فترة التسجيل (منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين).

شكل رقم (7)

 


وتتجاوز التداعيات ذلك، إلى كثير من مفاصل الاقتصاد الأرجنتيني، حيث تضاعفت أسعار الوقود خلال العامين الماضيين، وهي على وشك الارتفاع مرة أخرى. فيما يتم التحذير من أن يؤدي التضخم إلى ارتفاع عموم الأسعار بنسبة تصل إلى %30 العام الحالي، أو حوالي ثلاثة أضعاف المعدل الذي كان يأمله الرئيس مطلع عام 2018.

شكل رقم (8)

 


أدت هذه الاضطرابات المتكررة، إلى بناء سياسة استهلاكية خاصة بالمواطنين الأرجنتينيين، من خلال تحديد أفضل الأوقات لشراء منتج معين؛ لأنه رخيص نسبياً، وشراء السلع بأكبر عدد ممكن، أو ببساطة توفير الأموال بالدولار، نظراً إلى التأثير الهائل للتضخم في قيمة البيزو.

فيما تأقلمت الشركات مع التضخم المرتفع أيضاً، من خلال التربح منه، إذ يمكن للمؤسسات دائماً أن تفرض تكاليف أعلى للمستهلكين. وبالطبع، فإن النقابات العمالية يمكن أن تزدهر في البيئات التضخمية، إذ يعتمد الأعضاء على قدرتهم على التفاوض بشأن الأجور الأعلى خلال الجولات السنوية من المساومة.

ويبدو أن استجابة الأرجنتين لأزمة البيزو، التي تضمنت رفع أسعار الفائدة إلى 40% وطلب المساعدة من صندوق النقد الدولي، قد ساعدت حتى الآن على استعادة ثقة المستثمرين في عودة برنامج الإصلاح الاقتصادي للرئيس ماكري، إلى المسار الصحيح، بعد أن بدأ البعض الخوف من فقدانه طريقه.

ورغم تكرار هذه الأزمة، وحالة التكيف "النسبي"، التي تظهر في السلوك الاستهلاكي بين المواطنين الأرجنتينين، إلا أن ذلك لم يمنع من تظاهر عدد من المواطنين في الأرجنتين، احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية، في مايو 2018، حيث امتدت الأزمة إلى عجز الكثير من أندية كرة القدم عن دفع رواتب اللاعبين.

فيما تشهد مختلف مدن ومقاطعات الأرجنتين مؤخراً مظاهرات ضد سياسات التقشف التي أدت لانخفاض القوة الشرائية بشكل كبير لدى المواطنين، فيما سبقها تأخر في بدء الموسم الدراسي بسبب إضرابات المعلمين والأساتذة احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية. (مايو 2018، اليوم السابع)

ويسعى الأرجنتينيون إلى تقليص نفقاتهم إلى الحد الأقصى لمواجهة الارتفاع الجنوني للأسعار، في ظل ارتفاع فواتير الغاز والكهرباء والماء وبطاقات النقل المشترك، بشكل أسرع من عمليات تصحيح الرواتب. وتعتبر الشركات الصغيرة هي أول المتضررين، فيما تؤكد استطلاعات الرأي أن نسبة شعبية الحكومة تتراجع.

ومن ضمن الإضرابات المستمرة، شل إضراب يونيو 2018، العاصمة وقسماً من البلاد، ووجهت النقابات إنذاراً إلى الحكومة التي تتمسك بسياسة تقشف. (يوليو 2018، سويس انفو)

ومن أبرز تداعيات هذه الأزمة، أن أكثر من 30% من سكان الأرجنتين البالغ عددهم 44 مليون نسمة، باتوا تحت خط الفقر، ومن المتوقع أن تتضاعف هذه النسبة في ظل تواصل ارتفاع معدل التضخم، رغم أن الأرجنتين ضمن مجموعة العشرين التي تضم أكبر 20 اقتصاداً في العالم، وتُعد من أهم الدول الزراعية في العالم، إذ يبلغ حجم الإنتاج الزراعي فيها نحو 100 مليون طن من الحبوب سنوياً، عدا عن أنها ثالث اقتصاد في القارة.

وفي سياق تدارك الأزمة، تم تعيين وزير المالية في البلاد، رئيساً للبنك المركزي، ليتولى مهام وزارتي المالية والخزانة في البلاد معاً. (يونيو 2018، الوطن المصرية)

أما على مستوى التجارة الخارجية، فمن خلال البيانات التي توفرها Trade Map، يمكن ملاحظة أن ميزانها التجاري سلبي، حيث تتجاوز قيمة واردتها قيمة الصادرات، رغم أن كلا القيمتين في تراجع وفق بيانات عام 2017، حيث تراجعت صادراتها قرابة ضعف التراجع الذي شهدته الواردات.

ولا تتجاوز حصتها من التجارة الدولية 0.3-0.4%، رغم ذلك فهي تحتل المرتبة 44 و48 على التوالي في الواردات والصادرات الدولية. ويمكن ملاحظة أبرز السلع والخدمات والدول التي تعتلي النشاط التجاري الأرجنتيني من خلال ما يلي:

شكل رقم (9)

 

  

ثالثاً: مكانة القوة العسكرية الأرجنتينية

بداية تعتبر الأرجنتين واحدة من القوى الإقليمية المتوسطة، حيث تحتل المرتبة 37 بين القوى العالمية، إلا أن قدراتها تبقى في إطار الحاجة الداخلية لها، فرغم أن تعداد سكانها يتجاوز 40 مليون شخص، إلا أن تعداد قواتها الفاعلة بالكاد يبلغ 75 ألف شخص، مع معدات عسكرية حديثة ولكن بكميات تتناسب وتطلعات الدولة. ويمكن ملاحظة حجم قوتها، وفق مؤشر The Global Fire Power التالي:

شكل رقم (10)

 


ويمكن الاستدلال على مستوى القوة العسكرية، من خلال مستوى القدرات التسليحية، حيث شهدت الأرجنتين عام 2017، فقدان غواصة عسكرية على متنها طاقم يضم 44 فرداً، في جنوب المحيط الأطلسي، رغم جهود البحث البحرية والجوية، التي شاركت فيها الولايات المتحدة وبريطانيا وتشيلي، حيث قدموا دعماً لوجستياً وتبادلاً للمعلومات للمساعدة في البحث. (نوفمبر 2017، الخليج أونلاين)

وقد أدت هذه الحادثة إلى طلب وزير الدفاع الأرجنتيني، من قائد القوات البحرية التنحي عن منصبه وتقديم استقالته، في ديسمبر 2017، بعد شهر من اختفاء الغواصة "سان خوان". وقالت صحيفة "لا ناسيون" الأرجنتينية إن "المحادثة جرت بعد فترة وجيزة من تشكيل لجنة خاصة للتحقيق في مأساة اختفاء الغواصة وأفضت إلى الطلب من قائد القوات البحرية التنحي.

وتعتبر الولايات المتحدة، الشريك العسكري الأبرز للأرجنتين، وقد تعزز هذه العلاقات على مدار العقود الماضية، ووفقاً لموقع "أريستيجوي نوتيسياس" المكسيكي، فقد وافق الرئيس الأرجنتيني، على نشر الولايات المتحدة ما لا يقل عن 3 قواعد عسكرية على أراضي بلاده. حيث سيتم إشادتها في مقاطعات نيوكين حيث يقع حقل الغاز الصخري، وفي فاكا مويرتا، وفي ميسيونس وتييرا ديل فويغو ليتسنى من هناك مراقبة منطقة القطب الجنوبي.

ويؤكد المراقبون أن وزيرة الأمن الأرجنتينية تعتبر أحد المؤيدين الرئيسين لفكرة القواعد الأمريكية في الأرجنتين، لاسيما وأنها وافقت على استقبال مدربين أمريكيين، لتدريب ضباط الشرطة في الأرجنتين، قبيل قمة مجموعة العشرين المرتقبة في نوفمبر، دون الحصول على موافقة برلمان بلادها. (يوليو 2018، روسيا اليوم)

كما تعتبر فرنسا شريكاً مهماً، حيث أعلن الرئيس الفرنسي في يناير 2018، توقيع عقد لبيع خمس طائرات مطاردة (سوبر-ايتندار) للأرجنتين مع تجهيزاتها، بعد اجتماعه مع نظيره الأرجنتيني. وكان قد تم سحب آخر طائرات سوبر-ايتندار من الخدمة في فرنسا في يوليو 2016. (يناير 2018، الأمن والدفاع العربي)

ومؤخراً، شهد الجيش الأرجنتين تحديثاً مهماً، من خلال إعلان الرئيس الأرجنتيني، عن إصلاح قد يسمح لعناصر الجيش بالانخراط في الأمن الداخلي، مما أثار انتقادات فورية من جماعات حقوقية والمعارضة.

ويسمح ذلك للجيش بالتدخل في مكافحة تهريب المخدرات والإرهاب، وحماية المواقع الاستراتيجية مثل محطات الطاقة النووية أو الطاقة الكهرومائية، إلى جانب مواجهة "تحدي الفضاء السيبراني"، وأمور أخرى إلى جانب إلى حماية الحدود خاصة مع باراغواي وبوليفيا والبرازيل، لمنع دخول تجار المخدرات والإرهابيين.

لكن جماعات حقوق الإنسان والسياسيين المعارضين انتقدوا الإصلاح، قائلين إن هذه الخطط هي ضد القانون والديمقراطية. فيما كان مرسوم صدر عام 2006، قد قصر دور القوات المسلحة، في الدفاع عن البلاد ضد الهجمات الخارجية فقط. (يوليو 2018، مصراوي)


رابعاً: التهديدات الأمنية (الإرهاب والمخدرات) 

يعتبر كل من الإرهاب والمخدرات التهديد الأكبر الذين تواجههما الأرجنتين، عدا عن التنسيق المشترك الذي يقوم بين عصابات كل طرف، في ظل فساد عناصر وضباط شرطة وسياسيين، وتواطؤهم مع هذه العصابات، وصولاً إلى تداخل ذلك مع نشاطات إرهابية عابرة للحدود (إيران وحزب الله).

حيث تشهد المواجهة بين الطرفين، عمليات واسعة ومستمرة للقبض على هذه العصابات، سواء بشكل منفرد، أو بالتعاون مع دول الجوار.

فعلى سبيل المثال، ذكرت الشرطة البوليفية أن قوات الشرطة في بوليفيا والأرجنتين وتشيلي ضبطت 2.2 طن من المخدرات على حدودها المشتركة. وذكر كولونيل من وحدة شرطة مكافحة المخدرات البوليفية، أن قوات الشرطة من البلدان الثلاثة نفذت 78 عملية في وقت سابق من نوفمبر الماضي في منطقة الحدود. وتضمنت المخدرات الكوكايين ومواد خاصة بصنع الكوكايين والماريجوانا، واحتجز 83 شخصاً من جنسيات مختلفة. (نوفمبر 2017، الوئام)

كما ألقت السلطات الأرجنتينية القبض على ستة مهربين للمخدرات بعد تعقب عملية استبدال 389 كيلوغراماً من الدقيق على أنها شحنة من الكوكايين. من خلال استغلال مكتب بريد السفارة الروسية لتهريب المخدرات إلى أوروبا، بتواطئ من شرطي ودبلوماسيين في القضية. وتقدر قيمة الكمية التي عثر عليها من المخدرات في السفارة الروسية بنحو خمسين مليون يورو. (فبراير 2018، euro news)

ونتيجة كشف بعض فساد الشرطة، أقالت السلطات ثمانية ضباط شرطة من عملهم بعدما ادعوا أن الفئران أكلت حوالي 500 كيلوغراماً من الماريوانا المفقودة في مستودع للشرطة في مدينة "بيلار". (إبريل 2018، DW)

كما أوقفت شرطة الأرجنتين، عصابة حاولت أن تهرب كميات من الكوكايين والماريوانا في مجسمات لكأس العالم، وتم حجز 1.5 كيلوغرام من الكوكايين والماريوانا، فضلاً عن مصادرة سيارتين وقطعتي سلاح. وتصل القيمة التقديرية للمخدرات المحجوزة بمنطقة لاماتانزا في بوينوس آيريس، إلى قرابة 132 ألف دولار. (يونيو 2018، سكاي نيوز)

وقال وزير الخارجية الأمريكي، إن الولايات المتحدة ستعزز تعاونها مع الأرجنتين من أجل مكافحة نشاطات تنظيمات إرهابية مثل حزب الله تسعى للاستفادة من الوضع القائم في أمريكا الجنوبية من أجل تنفيذ عمليات إجرامية منظمة بهدف جمع التمويل، متهماً الحزب بممارسة تجارة المخدرات والتهريب والاتجار بالبشر.

كما أكد العمل المشترك مع الأرجنتين من أجل "تعزيز التعاون في مجالات مكافحة تنقل العصابات الإجرامية ومواجهة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. حيث أشار إلى أن المباحثات شملت "جميع الأسباب التي تدفعنا إلى التحرك تجاه هذه الجماعات الإجرامية (حزب الله) المتنقلة التي تنشط في تهريب المخدرات والاتجار بالبشر والتهريب وتبييض الأموال لأننا نرى الروابط بينها وبين الجماعات الإرهابية. (فبراير 2018، CNN بالعربي)

وفي قضية حديثة، أعلنت وحدة المعلومات المالية، وهي هيئة أرجنتينية مكلفة بمكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، أنها جمدت أصول "مجموعة بركات" وهي منظمة إجرامية تابعة لمليشيا حزب الله اللبناني يترأسها أسعد أحمد بركات.

حيث سبق وأن فتحت الأرجنتين تحقيقاً منذ أعوام في هذه الشبكة، التي تنشط في المثلث الحدودي المشترك بين الأرجنتين والبرازيل وباراغواي. وأمرت السلطات بتجميد جميع أموال وأصول هذه الشبكة وفقاً لقوانين محاربة الإرهاب الأرجنتينية. وأعلنت وحدة المعلومات المالية الأرجنتينية أن 14 شخصاً ضمن هذه الشبكة كانوا يعبرون الحدود من البرازيل دون الإفصاح عما يحملونه من أموال ويقومون بتصريف ما يزيد عن 10 ملايين دولار في أحد الكازينوهات كوسيلة لتمويل مليشيا حزب الله الإرهابية.

وأضاف بيان الوحدة أن مجموعة/عشيرة بركات، متورطة إضافة إلى تمويل الإرهاب في جرائم تهريب وتزوير الأموال والوثائق وتجارة المخدرات والابتزاز وتجارة السلاح وتبييض الأموال. يذكر أن رئيس مجموعة بركات، أسعد أحمد بركات، مصنف ضمن لائحة الإرهاب الأميركية منذ عام 2004. (يوليو 2018، سكاي نيوز)

  

خامساً: العلاقات الأرجنتينية-الإيرانية 

أما فيما يتعلق بالإرهاب الإيراني، فقد كشفت صحيفة وول ستريت جورنال، أن المدعي والمحقق في الأرجنتين ألبيرتو نيسمان، قتل بطلقة واحدة في الرأس في يناير 2015، قبل يوم واحد من الإدلاء بشهادته أمام الكونغرس الأرجنتيني، حول ما قيل عن تغطية الحكومة الأرجنتينية لتفجيرات إيران الإرهابية للمركز اليهودي عام 1994.

ومنذ عام 2004 حتى 2015، سعى ألبرتو نيسمان لكشف الحقيقة وراء هذه الهجوم وقد خلص من التحقيق الذي أجراه إلى أن إيران تولت التخطيط له. وأكد نيسمان أن الرئيسة السابقة، كريستينا فرنانديز تقف خلف عملية تعتيم هدفت إلى التغطية على الدور الإيراني، بسبب صفقات اقتصادية عملاقة وعلاقات حكومتها بروابط شعبوية بإيران وتكتل الدول البوليفارية بقيادة فنزويلا.

في حين كانت الأرجنتين قد أصدرت عام 2006، مذكرات اتهام لثمان مسؤولين إيرانيين بينهم الرئيس الأسبق علي رفسنجاني، إضافة إلى أحد المواطنين اللبنانيين، لضلوعهم في عمليات إرهابية فيها، وفي 2007 أصدر الإنتربول بطلب من الأرجنتين مذكرات حمراء لاعتقال ستة من المتهمين، لكن إيران لم تستجب للمذكرات الدولية. (سبتمبر 2017، عكاظ)

اتهام الرئيسة السابقة، أدى إلى الطلب من مجلس الشيوخ الأرجنتيني رفع الحصانة عنها، حيث تخضع للتحقيق، إلى جانب اعتقال كل من سكرتيرة الرئيسة السابقة وسياسي آخر مقرب منها، عدا عن وضع وزير الخارجية السابق، في الإقامة الجبري، بسبب المرض، لاتهامه بالتواطؤ مع الرئيسة السابقة بنفس الملف.

ويشير تقرير المحقق المغدور نيسمان، إلى أن الرئيسة السابقة ووزير خارجيتها، ومسؤولين رسميين آخرين أعادوا فتح قناة محادثات مع إيران لعقد صفقة يتم بموجبها تبادل الحبوب بالنفط الإيراني الذي تحتاج إليه الأرجنتين بشدة، وذلك بعد تراجع إنتاج الأرجنتين النفطي. واستخدمت قضية المركز اليهودي ملفاً لإرضاء مصالح جيوسياسية، بدون الالتفات إلى الدلائل، وكان سيجري إخراج الحقائق، أو المسؤولية الحقيقية عن الهجوم والمواطنين الإيرانيين وغسل أيادي إيران من القضية، وقد تم اتخاذ قرارات بهذا الشأن من قبل أعلى المستويات في البلدين.

إلى جانب أدلة أخرى يطرحها الادعاء في القضية وهو تسجيل صوتي لوزير الخارجية السابق، يقر فيه بمسؤولية إيران عن التفجير.

وقد تضمنت القناة الخلفية ترتيبات تقدم الأرجنتين بمقتضاها لإيران تكنولوجيا نووية، مع الاعتماد على شركات واجهة داخل الأرجنتين والأوروغواي لإجراء مثل هذه الصفقات.

وجاء في قرار الاتهام الذي أصدره القاضي الفيدرالي كلاوديو بوناديو، من 491 صفحة ضد فرنانديز ووزير خارجيتها هيكتور تيمرمان، ورئيس الاستخبارات في عهدها وكبير مستشاريها القانونيين، واثنين من النشطاء المؤيدين لإيران و10 آخرين، أن الهجوم ضد المركز اليهودي يعتبر "عمل حرب" من قبل إيران.

أما المسؤولون الإيرانيون المتهمون في القضية فهم:

-      الرئيس الإيراني السابق الراحل، علي أكبر هاشمي رفسنجاني.

-      وزير الاستخبارات السابق، علي فلاحيان.

-      وزير الخارجية السابق، علي أكبر ولايتي.

-      قائد الحرس الثوري السابق، أحمد وحيدي.

-      الملحق الثقافي الإيراني السابق لدى الأرجنتين، محسن ربّاني.

-      السكرتير الثالث السابق في السفارة الإيرانية في بيونس آيرس، أحمد رضا أصغري.

-      القائد السابق لشؤون الأمن الداخلي في حزب الله الراحل، عماد مغنية.

 

إلى جانب ما سبق، تتهم السلطات الأرجنتينية إيران بنشر شبكات إرهابية وتنفيذ عمليات قتل، إلى جانب إخفاء حقائق التفجيرات، وإقامة خلايا استخباراتية في معظم دول أميركا اللاتينية.

وفي مايو 2013، أصدرت لائحة اتهام في 500 صفحة تشرح كيف اخترقت إيران ليس الأرجنتين فحسب، وإنما كذلك البرازيل والأوروغواي وتشيلي وغيانا وباراغواي وترينيداد وتوباغو وسورينام، وكيف استغلت المساجد ومنظمات الخدمة الاجتماعية وسفاراتها في نشر الفكر الراديكالي وتجنيد إرهابيين.

  

سادساً: العلاقات مع روسيا

يمكن وصف العلاقات الثنائية بين الطرفين بالعلاقات الطبيعية، ولم ترتق بعد إلى مصاف العلاقات المميزة، ولعل حدث مطالبة الأرجنتين من موسكو اعتقال على أكبر ولايتي أثر بشكل محدود في هذه العلاقات، نتيجة عدم استجابة روسيا لهذا الطلب. ويمكن الاستدلال على مستوى العلاقات من تصريحات السفير الأرجنتيني في موسكو.

حيث أكد سفير الأرجنتين الجديد لدى روسيا، في مايو 2017، أن بلاده ستبقي على علاقات الشراكة الاستراتيجية مع موسكو والتي أقامتها حكومة بوينس آيرس السابقة. وقال في تصريح لوكالة "تاس" الروسية للأنباء في معرض تعليقه على اتفاقات مع روسيا وقعت خلال زيارة الرئيس السابق كريستينا فرنانديز دي كيرشنر إلى موسكو عام 2015: “هناك مفهوم عام مثير للاهتمام حول الشراكة الاستراتيجية الشاملة وخارطة الطريق لتحقيقها، ويجري حالياً وضع خارطة الطريق هذه موضع التنفيذ".

وأضاف السفير: "هناك العديد من المجالات التي يمكن فيها توسيع التعاون أو تعميقه، وهذا ما نهدف إليه، هذا هو التوجيه المباشر والواضح الذي تلقيته من وزير الخارجية”، مشيراً إلى مجالات العلوم والتقنيات والزراعة ومصادر الطاقة المتجددة والاستخدام السلمي للطاقة النووية.

أما بخصوص ملاحقة المسؤولين الإيرانيين، ففي وقت سابق من يوليو 2018، طلبت الأرجنتين من روسيا توقيف وزير الخارجية السابق ولايتي الموجود في موسكو بهدف ترحيله ومحاكمته في قضية اعتداء بوينوس ايرس.

وتقدمت الوزارة بطلب مشابه إلى الصين، وقالت وزارة الخارجية في بيان "تنتظر الأرجنتين رداً من السلطات الروسية في إطار معاهدة الترحيل الموقعة بين البلدين". وخلافاً لمتهمين آخرين في القضية، لم تصدر بحق ولايتي أي مذكرة توقيف دولية ولا يمكن المطالبة بتسليمه إلا عندما يكون في زيارة إلى الخارج. (يوليو 2018، مونت كارلو)

رغم عدم تجاوب موسكو مع الطلب الأرجنتيني، إلا أن ذلك لم يؤثر في لقاء بوتين مع نظيره الأرجنتيني، على هامش قمة "بريكس"، والتي أكد بوتين من خلالها أن: "العلاقات الثنائية تتطور بشكل ناجح وينمو التبادل التجاري. ووكلاؤنا الاقتصاديون يعملون على إيجاد خيارات مختلفة لتوسيع التعاون"، متمنياً للأرجنتين النجاح في استضافة قمة العشرين الخريف القادم.

كما أكد الرئيس الأرجنتيني، أن بلاده تعتبر روسيا شريكاً رئيساً في الساحة العالمية، وأشار إلى أن أول استثمارات روسية بدأت بالوصول إلى بلاده، وعلى وجه الخصوص، بدأت شركة "ترانسماش هولدينغ" بالفعل بالعمل في إحدى شركات السكك الحديدية في الأرجنتين. حيث: "فازت الشركة الروسية أيضاً بالمناقصة الأولى لصيانة وإصلاح القسم المتنقل، ما يعني أن استثماراتكم الروسية في الأرجنتين ستزيد، وستشارك شركاتكم بنشاط في أنشطة قطاع السكك الحديدية". (يوليو 2018، سبوتنيك)


سابعاً: العلاقات مع قطر 

تعتبر العلاقات بين الطرفين، علاقات غير مستقرة، أي أنها تشهد مرحلة شد وجذب، بين توسع استثمارات، وبين اتهامات لقطر في عدة ملفات، إلا أنها تشهد تنسيقاً مستمراً.

وعلى رأس ذلك، مطالبة النائب العام الأرجنتيني، في مارس الماضي، التحقيق مع رئيس البلاد الحالي ونائبته، بسبب توقيع مذكرة مع إمارة قطر تخالف اللوائح المعمول بها في الأرجنتين، وذلك بعد شكوك بأن الأموال القطرية التي تُضَخ للأرجنتين عبر الاتفاقية تحيط بها شبهات "غسل الأموال".

وقالت صحيفة "بوليتيكا أرجنتينيا"، إن أمير قطر، زار الأرجنتين والتقى الرئيس ماكري في نوفمبر 2016، وشهدت الزيارة ضخ أموال قطرية بحجة الاستثمار، إلا أن الأمر تم بشكل مريب وغامض، دون الكشف عن ماهية تلك المشروعات أو تفاصيل الاتفاق. حيث وقّع "صندوق قطر السيادي" للاستثمارات، وصندوق التقاعد الأرجنتيني المعروف باسم "أنسيس"، مذكرة تفاهم في 2016 حول خلق كيان اقتصادي بمساهمات مالية ضخمة من الصندوقين، في إطار استثمارات لخلق شراكة عبر ما يسمى "أوف شور"، وهي الشركات التي تثير الشك حول طريقة تدوير الأموال فيها، والاتهامات التي تلاحقها بالتورط في إخفاء الأموال وغسلها.

فيما أكدت صحيفة "أمبيتو" الأرجنتينية، أن استثمارات الصندوق قد تصل إلى مليار ونصف المليار دولار، يديرها طرف ثالث (لم تُحدد هويته) في إطار استثمارات بالداخل الأرجنتيني، ما يخرق السيادة القضائية ولا يجعل تلك الاتفاقية خاضعة للمراقبة، وقد يسمح بدخول أطراف قد لا ترغب فيهم الأرجنتين في إدارة مشروعات بنية تحتية كطرف ثالث يُفرض عليهم، دون قدرتهم على تغيير الواقع، ما يمثل انتهاكاً لسيادة البلاد دون قدرة على مراقبة الأموال. (مارس 2018، اليوم السابع)

لم يمنع ذلك من انعقاد الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارتي الخارجية في دولة قطر وجمهورية الأرجنتين، في بوينس آيرس، في مايو 2018. ترأس الجانب القطري في المشاورات السياسية وزير الدولة للشؤون الخارجية، بينما ترأس الجانب الأرجنتيني نائب وزير الخارجية، وتم بحث العلاقات الثنائية وسبل دعمها وتطويرها وعدد من القضايا والمواضيع ذات الاهتمام المشترك. (مايو 2018، وزارة الخارجية القطرية)

كما أجرى وزير الخارجية القطري، في يونيو 2018، اتصالاً هاتفياً مع وزير خارجية الأرجنتين، وحسب موقع الخارجية القطرية "جرى خلال الاتصال مناقشة الأوضاع والتطورات الأخيرة بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية". (سكاي نيوز، يونيو 2017)

ويمتد التأثير (القطري والتركي) إلى ملفات أخرى داخل الأرجنتين، حيث اتهم منظمون إسرائيليون قطر وتركيا بالوقوف وراء إلغاء المباراة الودية التي كان من المقرر أن تجري بين الأرجنتين وإسرائيل. ويقول المنظمون إن قطر وتركيا شاركتا في إقناع الفريق الأرجنتيني بالانسحاب.

حيث اتهمت الشركة الإسرائيلية الراعية للمباراة، "كومتيك جروب"، قطر بإقناع الفريق الأرجنتيني بالانسحاب من اللقاء، بعدما عرضت دفع فاتورة التعويض التي سيحتاجها الأرجنتينيون، وفقاً لصحيفة "إسرائيل هيوم". وأشارت مصادر إسرائيلية إلى أن الاتحاد الأرجنتيني لكرة القدم تردد في بداية الأمر من إلغاء المباراة خشية من تكلفة التعويض المقرون بذلك ومقداره 2.2 مليون دولار، خاصة أن الاتحاد الأرجنتيني يعاني ضائقة مالية حادة، وهنا تدخلت قطر بوساطة رئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، جبريل رجوب، وتعهدت بنقل مبلغ التعويض إلى الأرجنتين مقابل إلغاء المباراة. (يونيو 2018، سبوتنيك عربي)

ومؤخراً، وقعت مجموعة "قطر للبترول" المملوكة من الحكومة القطرية، اتفاقاً لشراء حصة تبلغ 30 في المئة من أسهم شركتين تابعتين لشركة "إكسون موبيل" تملكان حقوقاً لاستكشاف المحروقات في الأرجنتين. وتعد الاتفاقية الأولى التي تبرمها قطر للبترول في الأرجنتين. (يونيو 2018، النهار اللبنانية)

  

 

ثامناً: مواقف من القضايا الإقليمية شرق الأوسطية (قراءة في الصحف الأرجنتينية)

 أ-الموقف من عملية النصر الذهبي:

أشارت صحيفة LA NACION، إبان انطلاق عملية النصر الذهبي إلى قيام هجوم من قبل تحالف عربي بقيادة السعودية، ضد ميناء الحديدة الذي يقع بيد ميليشيات المتمردين الحوثيين في اليمن، ويعد معقلاً استراتيجياً لحرب اليمن التي دامت منذ فترة طويلة والتي خلفت عشرة آلاف قتيل في ثلاث سنوات من القتال.

واستند الصحيفة إلى تصريحات الحكومة اليمنية في المنفى، بأنها قد "استنفدت كل السبل السلمية والسياسية لانسحاب ميليشيا الحوثي من ميناء الحديدة"، وأن "تحرير ميناء الحديدة هو مرحلة فارقة في معركتنا لاستعادة اليمن من الميليشيات".

وأشارت إلى أن هذا التحالف يضم كذلك، دولة الإمارات، وقد بدأ عملياته منذ مارس 2015 وحصل على الدعم والخدمات اللوجستية من الولايات المتحدة. مع الإشارة إلى أن ميليشيات الحوثيين مدعومة من قبل إيران.

وحيث أشارت إلى حجم الضحايا في هذه الحرب، وتفشي داء الكوليرا، فإنها قالت إن التحالف قد تلقى انتقادات لأن غاراته الجوية تسببت في وقوع ضحايا بين السكان المدنيين، ومع ذلك لم يحقق انتصارات مهمة منذ أن استولى على خمس مقاطعات جنوبية وميناء عدن في عام 2015.

 

ب-الموقف من تطورات الملف السوري:

في عام 2015، اقترحت وزارة الشؤون الخارجية، استقبال المواطنين السوريين الفارين من بلدهم، لمدة عامين، بناء على أن الأرجنتين لديها مجموعة كبيرة من السوريين واللبنانيين، ولها علاقات قوية معهم. غير أنها عادت عام 2018، وقيدت ذلك بأن يكون لطالب اللجوء السوري أحد الأقارب المقيمين في الأرجنتين، وأن يتكفل برعايته لمدة عام على الأقل.

وشكك تقرير لصحيفة Politica Argentina، في إبريل الماضي، في دوافع الهجوم الأمريكي والفرنسي والبريطاني إبان رد تلك الدول على استخدام السلاح الكيماوي من قبل النظام، حيث اعتبرت الصحيفة أن الهجوم "مثير للجد"، وأن موضوع الهجوم "حجة مزعومة"، وحذرت من عواقبها الوخيمة على كوكب الأرض بأسره، كما رأت في ذلك ضرراً يطال الاقتصاد الأرجنتيني، نتيجة انخفاض تصدير مشروب المتة إلى سورية، كونها الأكثر استيراداً لها.

وفي تقرير حديث لصحيفة LA NACION، أشارت إلى هجمات داعش على محافظة السويداء، في واحدة من أسوأ الهجمات الجهادية في سورية منذ سنوات، حيث اشتبكوا مع القوات الحكومية، فيما شنت قوات النظام هجمات مضادة للتصدي لمهاجمي داعش.

كما أشارت إلى أنه في الأسابيع الأخيرة استعاد الجيش السوري وحلفاؤه السيطرة على معظم جنوب البلاد، لكنهم لا يزالون يقاتلون هناك ضد إحدى فرق داعش في وادي اليرموك، وهي منطقة حدودية مع مرتفعات الجولان المحتلة لإسرائيل. وأشارت إلى مساعي إطلاق لجنة دستورية جديدة بحلول نهاية سبتمبر، من أجل تعزيز الجهود لإنهاء أكثر من سبع سنوات من الحرب، والتي تركت أكثر من 350،000 قتيل.

 

ج-الاتفاق النووي مع إيران:

بالعودة إلى صحيفة LA NACION، فقد تناولت هذا الملف عبر تقرير في يوليو 2018، شرحت فيه أن الرئيس الأمريكي أطلق تحذيراً غاضباً لإيران، عبر تغريداته، بأن إيران "ستعاني من عواقب" كما عانها القليلون من قبل، إذا كانت تهدد الولايات المتحدة، وذلك في رسالة موجهة إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني.

وأشارت في تقارير سابقة الشهر الفائت، إلى أن إيران تستعد لزيادة قدراتها النووية، بعد إلغاء ترامب للاتفاق النووي، وأثارت الصحيفة موضوع التستر المنهجي لما كان يحدث وراء الأبواب المغلقة في المفاعلات، مما أثار سيلاً من العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام الإيراني لأكثر من عقد من الزمان، قبل توقيع الاتفاقية.

إلا أنها أشارت إلى أن الاتفاقية لم تسجل خروقات، غير أن حكومة دونالد ترامب ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يقولان دون أي شك أن النظام لم يغير قط نواياه، وأن خارطة الطريق هي باتجاه بناء أسلحة الدمار الشامل. فيما إيران التي تمتلك 5000 جهاز طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم وبنسبة 3.5%، تقول إنها تحتاج اليورانيوم المخصب لمحطة الطاقة النووية الوحيدة، وتنفي سعيها لتطوير أسلحة نووية.

 

د-المقاطعة العربية لقطر:

كما أشارت ذات الصحيفة في تقرير لها العام الفائت، إلى وجود توتر في الشرق الأوسط نتيجة الأنشطة الإرهابية، التي دفعت كلاً من السعودية والإمارات ومصر والبحرين، لقطع علاقتها بقطر، على مستوى العلاقات الدبلوماسية والاتصالات البرية والجوية مع قطر، للحماية من الإرهاب والتطرف وحث "جميع الدول والشركاء الأشقاء على القيام بالمثل"، فيما سحبت قطر قواتها من التحالف العربي المشارك في الحرب المستمرة في اليمن.

لكن الصحيفة أشارت لاحقاً إلى أنه تم طرد قطر من التحالف العسكري العربي، وبرر التحالف قراره بسبب الدعم القطري "المزعوم" للمنظمات الجهادية مثل القاعدة وداعش في اليمن.

وأشارت إلى أن الدوحة تواجه اتهامات منذ فترة طويلة بأنها دولة تدعم "الإرهاب"، وانتقدت كثيراً نتيجة دعمها للجماعات المتمردة التي تقاتل بشار الأسد، عدا عن العديد من المؤسسات الوطنية التي ترى وزارة الخزانة الأمريكية أنها متهمة بتمويل أنشطة "إرهابية".

 

د. عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري