صناعة الوهم في إيران: مؤشرات السياحة مثالاً

 

 

يُعرِّف Alan Bryman الوهم عموماً، بأنّه "التصورات والأفكار والخرافات التي يعتقد المرء بصحتها، من دون أيّ أساس واقعي ومنطقي وعقلي وعلمي، وبأنّها قابلة للتحقق في الواقع. كما إنه رغبات تأخذ صورة الحقيقة من دون التفكير المنطقي الواقعي بإمكانية تطابقها مع مطلب الحياةـ وحاجاتها ومع منطق الأشياء والوقائع. فكلّ ما ليس بممكن الحدوث الآن، ولا في المستقبل، هو وهم".

وعلى هذا الأساس يذهب Martyn Hammersley، إلى أنّ إنتاج وبيع وشراء الأوهام، عملية رائجة في زماننا، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة، في ترويج نمط الحياة والأفكار والصور والأخبار، وهي عملية تقوم بها أنظمة ودول ومؤسسات وأفراد. ويرى أنّ صناعة الأوهام ليست عملية بسيطة، فهي أعقد من التجارب المخبرية، وهي محصلة لعناصر عديدة، تمثل منظومة فكرية.

 وفق التعريفين السابقين، يمكن أن نبني أساساً لفهم أحد أشكال أدوات النظام الإيراني، في إدارة أزماته المتتالية، من خلال صناعة حالة وهم إعلامي، وبثها في ثلاثة اتجاهات معاً: الداخل الإيراني، والجمهور التابع لإيران في الخارج، وخصوم إيران. وتهدف عملية صناعة الوهم هذه، خلق تصوّر عن بنية إيرانية (سياسية واقتصادية وسواها)، متينة ومتنامية، بل وتنافسية على المستوى الدولي، والشواهد في ذلك كثيرة، لكل من يرغب بالبحث. ويقوم بذلك أوساط حكومية، أو محسوبة عليها ومقرّبة منها.

ونختار أحد هذه النماذج، من خلال التصريح الذي صدر عن جمشيد اثني عشري، مدير عام مجموعة بازار إيران الكبير (إيران مول)، وهو منصب موالٍ للسلطة بطبيعة الحال، حيث قال في حفل افتتاح معرض هذه المجموعة، "إن دبي مول يستقبل سنوياً نحو 80 مليون شخص، في حين أن إيران مول قادر على استقبال 100 مليون زائر إيراني وأجنبي سنوياً".

هذا التصريح بحد ذاته، دليل واضح على آلية صناعة الوهم (التي تصدر من محيط السلطة وليس من داخلها)، حيث أن الحقيقية المتخيَّلَة هنا، غير قابلة للتحقيق حالياً، أو مستقبلاً. ولسنا بصدد مناقشة إمكانيات هذا المول (في ظل الحصار والعقوبات)، ولا مناقشة قدرة إيران التنافسية في تنظيم المعارض الدولية (وهي شبه عديمة الخبرة في ذلك)، ولا في طور مناقشة مستوى الاستقرار والأمان الذي يزداد تدهوراً وبحدة. عدا عن أن إيران لم تكن يوماً إحدى الوجهات السياحية الدولية (رغم أهميتها السياحية الدينية لدى الشيعة).

وفي هذا الصدد، ننبه إلى أن صناعة الوهم (في إيران وسواها)، تقوم على أساس حقيقي، ولكن من خلال التلاعب به، وتجييره في مسارات غير صحيحة. فالأساس الذي قام عليه هذا التصريح، هو أهمية قطاع السفر في قطاع الخدمات التجارية الدولية في إيران، حيث يحتل المرتبة الثانية/الثالثة في هذه الخدمات، وفق الشكل التالي:

شكل رقم (1)


لكن هذه الخدمة، هي خدمة خاسرة حيث فقدت إيران أقل بقليل من 6 مليارات دولار عام 2016 جراء حركة السفر. ويستمر هذا الميزان في تحقيق خسائر طيلة سنوات الدراسة، وباتجاه تنازلي خاسر، رغم أن الميزان شمل السنوات التي شهدت بعض الانفراج في إيران، عقب توقيع الاتفاق النووي:

شكل رقم (2)


بل إن الميزان الخاسر، هو خاسر في عموم قطاع السياحة (وليس في حركة السفر)، وفق بيانات البنك الدولي، حيث سجّل هذا القطاع خسارة بأكثر من 6 مليار دولار، عام 2014، وباتجاه تنازلي، أي أن بيانات البنك الدولي متقاربة مع البيانات السابقة:

شكل رقم (3)


ويشهد هذا القطاع أزمة بنيوية مستمرة مرتبطة بنشوء الدولة الإيرانية، التي تكن يوماً محطة سياحية دولية، ويمكن التدليل على ذلك بالعودة إلى فترة سابقة، لمراقبة حجم قطاع السياحة في الاقتصاد الإيراني، الذي لم يسجل ميزاناً تجارياً موجباً سوى عام 1998:

شكل رقم (4)


مؤشر آخر يؤكد هذا الخلل البنيوي في قطاع السياحة الإيراني، هو مؤشر حركة الوافدين، والذي يكشف فضيحة أخرى تطال النظام الإيراني، وهي أن حركة المغادرين من إيران تفوق بكثير حركة الوافدين إليها، وبميزان سلبي أيضاً، مستمر في التدهور. وهو ما يؤكد ارتفاع حدة الهجرة المعاكسة من إيران (هروب الكفاءات والعقول والشباب)، التي تحاول إيران التعمية عليها من خلال صناعة أوهام أخرى:

شكل رقم (5)


ومع أننا لا نسعى لإجراء مقارنات بين دولة الإمارات وإيران، في قطاع السياحة، أو أي قطاع آخر، حيث أن المقارنة بينهما تظلم مكانة دولة الإمارات العالمية، إلا أننا نورد هنا ثلاثة مؤشرات تتعلق بهذا الشأن، استكمالاً لما تقدم سابقاً. فوفق بيانات البنك الدولي (التي لم تتوفر كاملة)، فإن حجم عدد الوافدين إلى دولة الإمارات كان أربعة أضعاف الوافدين إلى إيران عام 2005، وباتجاه تصاعدي حاد، على خلاف نظيره الإيراني:

شكل رقم (6)


وفي مؤشر أكثر وضوحاً، سجلت دولة الإمارات عدد رحلات جوية منها وإليها بما يعادل ثلاثة أضعاف ما سجلته إيران عام 2017:

شكل رقم (7)


وحيث تحتّل حركة السفر مكانة مهمة لدى إيران، فإنها كذلك لدى دولة الإمارات، لكن مع فارق الحجم الذي يصل إلى ستة أضعاف صادرات إيران، وضعف وارداتها، وبميزان إيجابي حققت منه دولة الإمارات فائضاً مالياً بأكثر من 2 مليار دولار عام 2016:

شكل رقم (8)


بالعودة إلى تصريحات جمشيد، نؤكد له أن إيران لن تستطيع استضافة 10% مما يتحدث عنه، بل إنها تفقد سكانها تدريجياً، طالما أن النظام الإرهابي قائم على رأس السلطة في طهران، ويدفع إلى مزيد من التدهور السياسي والاقتصادي والأمني، ويجعل من بيئة السياحة بيئة متهالكة، حيث باتت كثير من المعالم الأثرية السياحية تحت تهديد الانهيار نتيجة ضعف/غياب أعمال الصيانة، أو أنها باتت مرتعاً للعصابات وللحيوانات الضالة، نتيجة الإهمال والتدهور الأمني.

كان من المفترض بجمشيد ونظامه، العمل على ترميم التراث العالمي بين جنبات الأقاليم الإيرانية، والعمل على بناء ثقافة جذب تنبذ التطرف والإرهاب. لكنه استعاض عن ذلك بصناعة وهم يساهم إلى جانب كثير من الأدوات الأخرى، بتخدير مؤقت للداخل الإيراني، ويسمح لقادة النظام بمزيد من نهب ثروات الدولة، كما حصل كذلك مؤخراً مع الوهم/الفضيحة بخصوص الطائرة كوثر (F5).

 

د. عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري