فِخَاخُ الديموقراطيّة الانتقاليّة




كثيرٌ من الاشتغال الفكريّ الذي أُنجِز خلال عقد الثورة، تناول الديموقراطيّة باعتبارِها هَدَفاً سَامياً انطلقت الثورة من أجله، بما يحمِله من مضامين الحرية والعدالة. وظهر تيارٌ ثوريٌ بَالَغَ في مثاليّته، حين اعتبر أنّ الفعل الديموقراطيّ أَمرٌ مُنجَز، بمجرد إطاحة/إزاحة نظام الأسد، وبالتالي فإنّ عمليّة الدمقرطةِ هي عمليةٌ تلقائيةٌ لن تحتاج إلى كثير جهد. فيما ذهب تيارٌ آخر، يمكن تسمِيَته تجاوزاً بتيار "الطهرانية/السلفية الثورية"، والذي يُصرّ على عمليّة الدمقرطة بشكلها المعياري، دون الالتفات إلى معطيات البيئة السورية ثقافياً وأزمَوِيّاً وبِنيَوِيّاً، ورغم انحسار هذا التيار، إلّا أنّه ما زال يشتغل على طروحاته ذاتها، دون كثير تعديل.
أي أنّنا لم نشتغل بشكلٍ مؤسَّسِيٍ واسع، على تَبيِئَةِ الفكرة الديموقراطية في المجتمع السوري (والذي سيغدو لاحقاً مجتمعاتٍ بهوياتٍ مختلفة، وليس مجرد جماعاتٍ هُوِيَتيِة، وربّما هو بالأساس كان كذلك)، وكان الافتراض السائد في كثيرٍ من الطروحات، أنّ الديموقراطية واضحةٌ فلسفيّاً في العقل السوري، رغم حالة التصحير/التجريف الثقافيّ التي اشتغل عليها نظام الأسد طيلة عقود، ورغم التدمير الثقافيّ الذي طال كثيراً من البيئات السورية كإحدى تداعيات الثورة والحرب.
ربّما لم ننتبه إلى الحالات العربية المقارِبِة للحالة السورية، فباستثناء الحالة التونسيّة التي تتّجه للتحوّل إلى نموذجٍ عربيّ، شهدَت مجتمعاتٌ عربيةٌ عدّةٌ خَلطَاً بين الديموقراطية وأدواتها، واستَعجَلتِ الوصول إلى النتائج التي ترسّخت عبر قرونٍ في الدول الديموقراطية العريقة.
هنا نقصد تحديداً، التمييز بين الديموقراطيّة كثقافةٍ مجتمعيةٍ واسعةٍ ومرسّخة، وأداة الصندوق الانتخابيّ. فحالات مصر وقطاع غزة والعراق كأمثلة، كانت كاشفةً لهذه الإشكاليّة، ودافع كثيرٌ من المجتمعات تلك، عن نتائج الانتخابات، لتَتَحَوَّل إلى ديموقراطيةٍ إقصائيةٍ -مع عدم جواز الاشتقاق-. واعتمد جمهور الفائزين عبر الصندوق، على الفكر التسلطيّ السائد لعقودٍ في الثقافات المحلية، أثناء الانتقال إلى الديموقراطية، دون الالتفاف إلى الأزمات الكبرى القائمة في بِنيَان تلك الدولة.
في دولنا هذه التي شهدت حراكاً ثورياً، تحوّل في بعضٍ منها إلى صراعٍ بين سلطةٍ ومجتمع، كان قد تمّ تخريب غالبيّة البِنَى الثقافيّة والمؤسّسية، ودخلت البلاد في أزماتٍ بِنيَوِيّةٍ مُركَّبة، ما كان بالإمكان الخروج منها إلّا ثورياً. لكن الفعل الثوري، لا يُشكِّل أداةً ديموقراطيّة بحدّ ذاته، بل هو فعلٌ اضطراريٌّ استثنائيّ، لدفع الدولة المُستَعصِيَة نحو إصلاح بِنيَاتِها المُخرَّبة، أو إعادةِ إنتاجِ الدولة بشكلها أو عبر تفكيكها.
وبالتالي، فإنّ الفعل الديموقراطيّ الأوَّلي، عقب الثورة مباشرة، يجب ألّا يُفهَم بالشكل المعياري "حكم الأكثرية"، فالتخريب الحاصل، هو عبءٌ أكبر من أن تتحمّله أكثريةٌ سياسيةٌ ذات طابعٍ إثنيٍّ غالباً في دولةٍ تُشبِه سورية، واستفراد هذه الأكثرية العُصبَوِية بالمهمة، يعني -حتماً- إخفاقها، ودفع البلاد إمّا إلى استبدادٍ جديدٍ أو العودة بها إلى مسارات الفوضى الثورية.
هذه المعضلة، كانت وراء إنتاج فلسفة الديموقراطيّة الانتقالية، والتي تعني فيما تعنيه، أنّ البلاد، تمرُّ في مرحلةٍ انتقالٍ من الشكل السلطويّ إلى الديموقراطي، بشكلٍ تدريجي. وأبرز ملامحها هنا، التشاركيّة في إدارة البلاد للاقتراب من مرحلة "الترسيخ الديموقراطي". فتونس مثلاً، احتاجت قرابة ثماني سنواتٍ لبلوغ عتبة هذه المرحلة. ورغم أنّها شهدت محاولاتٍ محدودةً لتطبيق الديموقراطيّة المعياريّة "حكم الأكثرية السياسيّة"، إلّا أنّه في غالب تلك السنوات، كانت نُخَبُها مُرغَمَةً على التشارك: إمّا عملاً، وإمّا خضوعاً لنقدٍ بالغ الحدّة، لمنع الانحرافات الخطيرة، وما تزال البلاد بحاجةٍ إلى مزيدٍ من سنوات الترسيخ.
مبرّرات هذا الحديث، هي ما يسري في ثقافتنا العامّة، سواءً نتيجة قُصورٍ معرفي، أو تقصيرٍ نُخبَوِي، أو مصالح سياسيةٍ لأطرافٍ بعينها، من أنّ المرحلة الانتقاليّة تعني حُكْمَ السنّة -بِهُوِيَتهم الإثنية- للبلاد، كونهم الأكثرية، وأنّ الديموقراطية تعني فيما تعنيه بالتالي، إقصاء كافة الخصوم الإثنِيّين، وهو أول تلك الفِخَاخ.
إشكالٌ/فخٌّ آخر يظهر هنا، مرتبطٌ بمفهوم الأكثرية والأقلية، فإمّا أن نحاكم المفهوم محاكَمةً عقلانيةً سياسية، بمعنى أن يكون الحديث عن أكثريةٍ سياسيةٍ ذات هُوِيَاتٍ متعدّدة، قادرةٍ على تحشيد غالبية الجماعات الإثنية السورية في عملية إعادة البناء، وهذا أساسٌ ديموقراطي. وإما أنّ نحاكمه محاكمةً عاطفيةً هُوِيَّتيةً (إثنيّة)، بمعنى أن يكون الحديث عن أكثريةٍ سنيةٍ أو عربيةٍ، في مقابل أقليّات إثنية، وهو ما يُحيلُنا إلى نماذج الجوار السوريّ (العراق ولبنان)، في بناء محاصصةٍ طائفيةٍ لا تمتّ للديموقراطية بِصِلَة، تستخدم أدواتٍ ديموقراطيةً (أبرزها صندوق الانتخاب)، في ترسيخ مُحاصصاتها التي لن تخدم سوى قادة الإثنيات ومصالحهم.
الفخ الثالث، الذي يمكن أن نشير إليه في هذه العجالة، مُتَعلِّقٌ بشريحةٍ نخبويةٍ أكثر منه بالمجتمع، ويختصّ بمحاولة تهديم البِنَى الهُويّتيّة دون الدولة (الهُويّات القَبْلِيّة أو الأوّلِيّة)، باعتبارها هُوِيّاتٍ غير ديموقراطيّة. ما يحيل إلى خلق أزمة ثقةٍ تتّصل بالهوية، وتكون بالغة الحدّة بين المجتمع ونخبه. رغم أنّ الفعل الديموقراطي الليبرالي ذاته، لا يمنع وجود طبقاتٍ من الهُويّة الفردية، يكون أعلاها الانتماء إلى الدولة، وأن يكون المواطن عضواً في جماعةٍ دينيةٍ أو قوميةٍ أو قَبَلِيّةٍ أو جهويّة، طالما أنّ هذه العضوية لا تشتغل بالضدّ من الهوية الوطنية الأعلى.
فخٌ رابعٌ يمكن الإشارة إليه في هذه المقالة، متعلّقٌ بإطلاق حرية نقد الأديان في هذه المرحلة، تحت بند حريّة الرأي والتعبير والمعتقد، في محاولة استعارة نماذج غربيةٍ غير شائعة، ومحاولة تنزليها على مجتمعاتٍ مُستَغرِقَةٍ في هُوِيّاتها الدينيّة من جهة، وتعاني أزمات هُوِيّتيةٍ وطنيّةٍ ودينيّةٍ من جهةٍ ثانية، وترى في الهُويّة أساساً لنزاعاتها مع الآخر. هذا الاشتغال النخبويّ، وخصوصاً في المرحلة الانتقالية، هو اشتغالٌ تهديميٌّ غير بنائي، يدفع إلى مزيد من التخريب، في محاولة فرض نموذجٍ علمانيٍّ متطرّفٍ في علمانيّته داخل مجتمعٍ لم يُنجِز بَعْدُ عمليّة التحديث الهُوِيّتية.
ولا يمكن حصر تلك الفخاخ، لكن نضيف فخاً آخر، متمثِّلاً في الاعتقاد بأنّ الديموقراطيّة هي الغاية المنشودة من الحراك السياسي، لا باعتبارها الوسيلة الأكثر فعاليّةً حتى الآن، في ضبط المجتمع والارتقاء به وصولاً إلى حالة الرفاه. وفيما يجادل البعض بوجود نظم أكثر فعاليّة من خلال استخدام نماذج مشوّهةٍ أو غير قابلةٍ للتطبيق خارج بيئتها، تبقى الديموقراطيّة النظام الأكثر فعاليةً وقابليّةً للتطبيق والتعميم.

بالمشاركة مع صحيفة نينار برس

د. عبد القادر نعناع
باحث وأكاديمي سوري