نزاعات العائلة وانكشاف الأسد




صحيحٌ أنّ الثورة لم تُنجِز هدفها المباشر بإسقاط النظام، والتحوّل عنه إلى دولة ديموقراطية مُتَخيّلَة، لكنّ هذا التعثّر المباشر، لا يعني عدم وجود آثار غير مباشرة واسعة، أدّت إلى تفكيك النظام تدريجياً، والدفع نحو انهياره ذاتياً، عبر خلق فجوات في حواضنه، سمحت بامتداد التخريب إلى بؤرة النظام المركزية.
فالنظام كان محاطاً بعدة حواضن تحميه، تفكّكت تدريجياً منذ عام 2011، حين انحاز قسم كبير من الشعب السوري إلى جانب الثورة، وقسم آخر إلى الجانب المحايد الذي لم يُعبِّر عن أية ميول سياسي، تاركاً للنظام حاضناً اجتماعياً مغلوباً على أمره، أو طائفياً، أو انتهازياً.
فيما طال التفكيك مبكراً، بنية الحاضن البعثي والدائرة العسكرية، عبر الانشقاقات، وبقي أثر التفكيك في الدائرة الأمنية محدوداً نسبياً لسنوات طويلة، وهو ما ضَمِن استمرار تماسك ظاهري للحاضنة الطائفية والعائلية الكبرى والعائلية الصغرى.
كما أن استمرار الصراع المسلح بين الثورة والنظام، أجّل كل الانهيارات داخل بنى النظام المتداعية (رغم تماسكها الظاهري)، لكن وبعد أن انحسرت الثورة إلى جيب شمالي صغير، وتم ضبط كثير من العمليات العسكرية مقارنة بالسنوات الأولى من الثورة، أدّى ذلك إلى تراخي الحافز/القلق الذي كان وراء حشد كل طاقات النظام، لتظهر تلك الاضطرابات متتالية.
أي أنّ غياب الخصم أو العدو المحلي للنظام، سمح له بالتفرغ لبنياته الداخلية المتداعية، وهنا أدرك أنه استنزف كل طاقاته خلال السنوات الثماني الماضية، فقد ألحق بالطائفة العلوية خسائر بشرية كبرى، لن يمكن تعويضها، وبالتالي كانت الطائفة متداعية، وحتى وإن رغبت بدعم النظام، فإن قدرتها على ذلك باتت جِدُّ محدودة.
ووجد النظام نفسه وقد استنزف القدرات الاقتصادية والمالية للدولة السورية، ولم يعد لديه ما يقدمه لضمان ولاء الحواضن المتداعية، سوى الثورة المنهوبة التي بحوزة العائلة الكبرى المحيطة بالأسد.
الجهاز الأمني ذاته، بات منقسماً بين مصالح متضاربة داخل ما تبقى من الدولة، محاولاً الحصول على حصة من المصالح المتبقية. وهذا ما جعل العائلة الكبرى (الأسد ومخلوف وأنسابهم)، مكشوفة للعلن إلى هذه الدرجة، وللمرة الأولى.
وطالما كانت هذه العائلة (الكبرى)، في نزاعات داخلية، يتم تسريب أخبار غير موثوقة عنها، وهي أشبه بنزاعات رجالات المافيا على توزيع قطاعات الأعمال فيما بينهم، حسب موازين القوى بين أطراف هذه العائلة، واتخذت شكل نزاعات مصالح أكثر منها نزاعات سلطوية (ربما النزاع السلطوي الوحيد كان بين رفعت وحافظ).
وبغض النظر عن طبيعة النزاع الحالي بين رامي مخلوف وأسماء الأسد، وهو نزاع على توزيع حصص ما بعد الحرب، إلا أنه تهديم علني للرابطة العائلية الكبرى، وتحويل أعضاء هذه الرابطة إلى مرتزقة/أجراء لدى الرابطة العائلية الصغرى (بشار وماهر وبعض المقربين من عائلة الأسد)، ما يشير إلى مزيد من انكشاف الأسد أمام التخريب الذي طال كل البنى السورية، لكن التخريب هنا يعني الإنهاء على الأسد ذاته.
فالدائرة العائلية الصغرى، هي آخر ما تبقى للأسد، وهي أيضاً مكشوفة للغاية، فبشار بات غير مرغوب به دولياً، وتحاول أسماء الاستحواذ على أكبر كم من المنافع ما بعد الحرب، فيما يتوارى ماهر في الخلف قليلاً ولا نعلم ما هي طبيعة نواياه، وهي بالتأكيد تتجاوز موضوع نزاعات المصالح، وربما نشهد نزاعات مسلحة منخفضة الحدة في الفترة الأولى، بين أطراف محسوبة على ماهر وأخرى محسوبة على بشار، في عملية تصفية ذاتية داخل النظام.
ختاماً، ما يجري حالياً، هو تحضير لمرحلة جديدة من التاريخ السوري، لا يمكن التنبؤ بشكلها بدقة، وتحمل كثيراً من المخاطر التي يجب التنبه لها، فزوال الأسد، لا يعني مطلقاً الانتقال التلقائي نحو دولة مستقرة أو نحو ديموقراطية، أو حتى ضمان استمرار الدولة ذاتها.


بالمشاركة مع وكالة ثقة

د. عبد القادر نعناع
باحث وأكاديمي سوري