تفكيك الهوية السورية: السلطوية والطائفية والثورة



تُعتَبر الهُويّة السورية واحدةً من أكثر الهُويّات تعقيداً وتراكباً وتفكيكاً، فهي هُويّةٌ لم تكن نتاج تطوّرٍ تاريخيٍّ لأمّةٍ قائمةٍ بذاتها (كما الأمّة الفرنسية أو الصينية أو حتّى الأمريكية)، بل إنّ هناك هُويّاتٍ عربيّةً محليةً أكثر رسوخاً من الهُويّة السورية بكثير، كما في الهُوية المصرية والمغاربية والخليجية واليمنية، وذلك عائد إلى طبيعة التطوّر التاريخي للمنطقة، بشكلٍ غير مستقل، بل باعتبارها (بلاد الشام) منطقة جذبٍ/طردٍ سكانيٍّ حسب المعطى الحضاري، ومنطقة تنافس قوى دوليةٍ متدخِّلةٍ في هذه المنطقة، ومنطقة هجرات نزوحٍ/فتحٍ جماعية.
هذا التعقيد، لم يترك مجالاً لتطوير هُويّةٍ محليةٍ في الإطار الجغرافي "الشام"، أو في الأطر المحلية الأصغر "سورية، لبنان، الأردن، فلسطين"، وإن كان للدول الأخرى هويّاتٌ أقل إرباكاً من الهُوية السورية. فحتى على مستوى الاسم، لم تكن سورية حاضرةً لقرونٍ طويلة، وطالما كان الارتباط بمراكز حضريةٍ بعيدةٍ عنها، أو كانت كلّ منطقةٍ شاميةٍ فيها، تُشكِّل مركزاً حضارياً مستقلاً عن الآخر.
فيما تُعتَبر الهُوية السورية القائمة اليوم، فرضاً سياسياً استعمارياً نشأ مطلع القرن الماضي، وبالتالي لم تكن نتاج دمجٍ حضاري-تاريخي طبيعيٍ تطوّر إلى مرحلة الهوية العامة لهذه الجغرافيا غير المتناسقة حينها (إما مُقتطعٌ منها امتداداتها الهُويتية، أو أنّها ملحقٌ بها امتداداتٌ هُويتيةٌ مختلفة).
وأتت الهُوية السورية بالغة التركيب، من خلال قيامها على هُوياتٍ فرعيةٍ دينية ومذهبية وطائفية وعرقية وجهوية وقبلية، وما إلى ذلك من تفريعات هُويتيةٍ دون وطنية. لكن ذلك لم يُعق بناء هُويةٍ سورية عليا (وطنية جامعة)، تقوم على طبقات من الهُويات الفرعية، متكاملةٍ فيما بينها، في إطارٍ ديموقراطي، يتيح لجميعها تطوير ذاته ضمن الهُوية السورية، والتعبير عن ثقافته، والانفتاح على الآخر المحلي، وردم الهُوّات القائمة بينها.
ورغم الفرض الخارجي لهوية جغرافية للبلاد، فإنّه ومع سنوات الاستقلال الأولى، كان هناك اشتغالاتٌ حثيثةٌ لبناء هُويةٍ سُوريةٍ جامعة، استطاعت دمج السكان قديمي العهد في البلاد (الأكثرية وبعض الأقليات)، بأولئك الوافدين الجدد خلال القرنين الأخيرين (منذ منتصف القرن الثامن عشر)، في هُويةٍ سوريةٍ مركّبة ومعقّدة، لكنها منفتحةٌ حضارياً، محافظةٌ ثقافياً لناحية التزامها بالقيم الثقافية للأكثرية العربية المسلمة، دون اعتداءٍ على حقوق الهُويات الثقافية الأخرى، مُشتَغَلٌ على تجديدها، وما ساعد في ذلك عمليات التأسيس الديموقراطية في المجتمع السوري، رغم تعثّرها.
وعوضاً عن صداماتٍ إثنيةٍ بين الثقافات المحلية، كانت الانحيازات الفردية والجماعية ذات طابَعٍ سياسيٍ أكثر منه إثنياً، وهو ما ساعد في تطوير العمل السياسي في البلاد، وسمح ببروز تياراتٍ فكرية متعدّدة.
الإشكال الهُويتي  التفكيكي، ربما سيتأخر في الظهور الحادّ، إلى ما بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، ومصادرة الفعل السياسي والمدني، لصالح هُويةٍ واحدةٍ مفروضة من السلطة (هوية سياسية قومية/البعث)، وربطها بالتوجّهات الخارجية السلطة (بناء شرعية للسياسة الخارجية)، وصولاً إلى فرض عَلمَنَةٍ بالإكراه، كانت أقرب إلى العَلمَانية الطائفية، منها إلى هُويةٍ عَلمَانيةٍ تطوّرت تاريخياً.
ما أنتجته العَلمَانية الطائفية الإكراهية، كان سياسة تعزيز خطوط الفصل بين الهويات المحلية (تفكيك الهوية السورية)، بشكلٍ غير مباشر، عبر أدوات الجذب والطرد من المركز السياسي (دمشق)، وتوزيع حصص الزبونية السياسية حسب الثقل الديموغرافي أو السياسي، وإبعاد جماعات بأكملها من منافع الزبونية السياسية نتيجة عدم رضا السلطة عنها.
ومما أنتجته كذلك، قمع التعبير الثقافي عن الذات الهُويّتية المحلية (ما عدا السماح المضبوط أمنياً، بأداء الشعائر الدينية البسيطة)، وهو ما أعاق تطوير الهُويات المحلية، وأدى إلى انغلاقها على ذاتها، وبالتالي تهديم الجسور مع الهُويات السوريّة المحلّية الأخرى، وتَخلُّف هذه الهُويات، وتحوّلها إلى هُوياتٍ متصارعة لاحقاً.
ربّما كانت شرارة الحدث الثوري، بوابةً مهمّةً لبناء جسورٍ هُويّتيةٍ تم تفكيكها ثم تهديمها، وهو ما تمّ في بعض المناطق، لكن الاصطفافات السياسيّة وما ترافق معها من تطوير خطاباتٍ ذات بعد عصبويّ (ديني أو عرقي)، أدّت إلى توسيع الفجوة من جديد بين الهُويات المحلية السورية، حتى بات بالإمكان فصل مناطق عن أخرى كلياً، بل ودولنتها إن شئنا، نتيجة تبلور هُوياتٍ سياسيةٍ-إثنيةٍ مستقلّةٍ عن الهُوية السورية (حتى عن الهُوية العَلمَانية الطائفية الأسدية).
وبات يمكن تعريف غالبية المجتمع السوري هُويتياً، وفق اصطفافات المتغير الثوري:
-        هُويات إثنية-سياسية مع الثورة.
-        هُويات إثنية-سياسية ضد الثورة.
-        هُويات إثنية-سياسية تشتغل على مشروعها الخاص.
-        هُويات إثنية-سياسية، انغلقت على ذاتها دون مشروع.
-        مجموعات هُويّتيةٌ صغيرةٌ للغاية (وليست جماعات)، عائمة، عابرةٌ لهذه التقسيمات، إمّا منفصلةٌ تماماً عن الشأن السوري، أو أنّها تحاول جاهدةً بناء جسور جديدة بين الهّويات السورية الفرعية وما دون الفرعية.
وطال هذا التفكيك، الهُويات الفرعية ذاتها، وباتت وكأنها هُويّة كليّةٌ تضمّ هُويات فرعية، وأصبحنا أمام مشهد بالغ التعقيد، لم يعد بالإمكان فيه، البناء على المعطيات السابقة في بناء هوية سورية، وبالتالي دولة سوريةٍ جديدة، إلا عبر الانطلاق من متغيرات/معطيات جديدةٍ تماماً، وحواملَ اجتماعية وثقافية جديدة. فالهُوية العربية أو الكردية أو الهُويات الدينية كافة، تضمّ اليوم في باطنها هُوياتٍ فرعيةً متنازِعةً فيما بينها، وكأنها تشتغل ضمن إطار هُويةٍ جامعةٍ خاصّةٍ بانتمائها الإثني.
ويُضاف إلى تعقيد المشهد الهُويتي السوريّ، وخصوصاً ما بعد الثورة، ارتباط بعض الهُويات المحليّة أو أحد فروعها، بهُويات إقليمية خارجية، في بحث عن داعمٍ خارجي أو عن إطارٍ ثقافي أوسع، يوفّر لها استقلاليتها المُتخيّلة عن باقي الهُويات السورية، أو عبر تهديم قرونٍ من هُويّة المنطقة والبحث عن هُويات مندثرة (نكوصٌ هُويتيٌ تاريخيّ).
بالمحصلة، فإنّ قيام دولةٍ سورية، أو دولٍ سورية، يتطلّب تبلور هُوية جديدة لهذه الدولة/الدول، تضمن لها استمراريتها بعيداً عن نزاعاتٍ إثنيةٍ تقوّض أي منجزٍ لاحق، فنحن اليوم بأمس الحاجة للبحث عن بناة الجسور ما بين الهُويّات السورية.

بالمشاركة مع صحيفة نينار برس
د. عبد القادر نعناع
باحث وأكاديمي سوري