دور قانون قيصر في التغيير السياسي السوري



منذ آب/أغسطس 2011، وحتى الشهر الأول من هذا العام، كان مجلس الأمن الدولي قد أصدر 7 بيانات رئاسية، وستة وعشرين قراراً، تختصّ جميعها بالشأن السوري، دون أن يكون لها قوة الإلزام التي تتمتع بها قرارات الفصل السابع/ المادة 42، نتيجة بِنية المجلس وآليّات عمله. لكن ذلك لا يعني أنّ المجلس لم يضع أُسساً مهمّةً للاشتغال عليها من خارجه.
ولعلّ القرار 2254، واحدٌ من أهم هذه القرارات، حيث أصبح اليوم المرجع الأساس للقانون الأمريكي الأخير "قانون قيصر"، وبالتالي فإنّ الولايات المتحدة تضع ضوابط تحركها تجاه النظام السوري، وفقاً للقرار 2254، والذي يعود في مرجعيّته إلى بيان جنيف 2012، وبَيَانيّ فيينا. وهي بياناتٌ بالغة الأهمية والتأسيسية في إطلاق عملية تغييرٍ سياسي، تقود حتماً إلى إزاحة عددٍ من أهم رموز النظام، وإفساح المجال لعملية إصلاح طويلة الأمد، ترنو تفكيك النظام وإعادة بناء الدولة السورية ككل.
وإذ يأتي قانون قيصر، ليُشكِّل الأداة التنفيذية، بصيغةٍ غير مباشرة لقرارات مجلس الأمن، التي طالما طالبت بتطبيق القرار 2254 وبيان جنيف وبيانَي فيينا. وهنا نشير إلى أن تأثير القانون غير مباشر، حيث أنّه لا يستهدف إسقاط النظام، أو إلزامه فوراً بإطلاق عملية التغيير السياسي، بل يُقوّض ما تبقى له من مقوّمات قوةٍ ساعدته في الامتناع عن تنفيذ أيٍّ من القرارات الدولية، ويلزمه بالتوجّه نحو تلك المرجعيات.
فالقانون الأمريكي:
-        يُقوّض قدرة النظام في الحصول على تمويل جديد من مصادر الطاقة السورية، وبالتالي قطع واردٍ ماليٍّ هو بأمسّ الحاجة إليه حالياً لإدارة أسوء مراحله، عدا عن أنّه يقطع عنه تمويل عملياته العسكرية والأمنية تجاه أية مناطق ثائرةٍ أو منتفِضَةٍ عليه.
-        ويقطع عنه أي تمويلٍ منشود، لدعم إصلاح قطاع الطيران العسكري، ورغم أنّ هذا الشق لم يعد يعني كثيراً اليوم، لكن من المتوقّع أنّ يمتد إلى باقي القطاعات العسكرية، بشكلٍ يُقوّض قدرته على الاستمرار في عملياته العسكرية، أو حتّى إطلاق عمليّاتٍ جديدة، تجاه مناطق الحراك الشعبي المنتفضة من جديد.
-        كما يمنع النظامَ من إطلاق عملية إعادة إعمار، هو بحاجتها مادياً ومعنوياً، لتعزيز صورة "انتصاره" محلياً، وهو ما سيؤثر كثيراً في قضية الاستفادة من أملاك المهجّرين، وخصوصاً التي تمّ تدميرها كلياً.
-        والعنصر المهمّ الإضافي، هو أنّ القانون: من المفترض أن يقطع عن النظام قدرته المصرفية في التعامل مع الأطراف الخارجية. فنحن بانتظار تقرير وزير الخارجية الأمريكي في أقلّ من 90 يوماً، حول دور المصرف المركزي السوري في غسيل الأموال، ونعتقد أنّ الوزير سيقدم شيئاً مهماً في هذا المنحنى. وبالتالي فإنّ التعامل مع المصرف سيُعرّض أولئك المتعاملين لخطر عقوبات أمريكية، وخصوصاً أنّ الولايات المتحدة تتحكّم بالنظام المالي العالمي وتحويلاته.
باختصار، فإنّ القانون الأمريكي، حتى الآن، يجعل من نظام الأسد، مُجرّداً من أدواته بالغة الضرورة/الخطورة في قدرته على الاستمرار في الفترة القادمة، فالنظام سيكون بدون: نفط، مستثمرين، مموِّلِين، حسابات وتحويلات مالية دولية، إعمار، مشتريات عسكرية. وبالتالي، فإنّ وضع النظام اليوم، بات أشبه ما يكون بمافيا غير قادرة على الاستفادة من آليات النظام الدولي القانونية، إلا عبر وكلاء وأمراء حروب أو عبر الاستفادة من الفساد الدولي من خلال وسطاء (رجال أعمال وسياسيين، سوريين وغير سوريين).
صحيح أنّ هناك أنظمةً استمرّت في السلطة، رغم وجود عقوباتٍ أمريكيةٍ ودولية، كما النظام الإيراني، لكنّ تلك الأنظمة لم تخرج من حرب طويلة الأمد من جهةٍ، ولم يتعرّض سكانها لعمليّات تهجيرٍ واسعة، ولم تخضع أراضيها لعدّة احتلالاتٍ معاً، أي أنّه لا يمكن الاعتماد على هذه المقارنة وحدها في مجال العقوبات، فهناك كثيرٌ من المتغيّرات التي تحكم المشهد السوري.
من جهة ثانية، يتّسع الضرر الذي يؤسّسه القانون الأمريكي، ليطال المتعاملين/الداعمين مع نظام الأسد، وخصوصاً: روسيا، وإيران، وبعض الدول العربية.
بالنسبة لبعض الدول العربية، فإنّ التجارب السابقة، بخصوص عقوبات ترامب الأخيرة على إيران، توضّح أن تلك الدول اضطرت مُرغَمةً على الالتزام بها، ولم تكن قادرةً على خرقها، وهو سلوكٌ متوقّعٌ منها في الحالة السورية، على افتراض أنّ الولايات المتحدة ستثبت جِدِّيَّتها تجاه بوالين الاختراق التي ستطلقها بعض الجهات قريباً.
المتضرر الثاني، إيران، وهي أيضاً تقع تحت حملة عقوباتٍ أمريكية بالغة الحدة، ولم تستطع غالبية الدول خرق القانون الأمريكي (ربّما هناك خروقاتٌ غير معلنةٍ وغير مباشرة، بموافقةٍ أمريكية). لكنّ إيران، وحيث أنّها ما تزال في "مرحلة العناد" مع الولايات المتحدة، وغير مستعدَّةٍ لتقديم تنازلاتٍ لترامب، فإنّها من المتوقع أن تقود حملة خرق القانون.
لكن من جهةٍ أخرى، تعاني إيران من تدهورٍ بالغ الحدة، قد يودي بها هي الأخرى، في حال قرّرت تخصيص جزء من مواردها المحدودة للغاية، لتمويل نظامٍ متداعٍ ومُلَاحِقٍ دولياً، رغم أنّ هذا السلوك الإيراني، يبقى متوقعاً بنسبة كبيرة، وإن كان على الأقل لميليشياتها العاملة في سورية، والمشمولة بالقانون الأمريكي.
المتضرّر الأهم، والأكثر تأثيراً في المشهد السوري، روسيا، وهنا يمكن أن نستشرف بعض المداخل نحو إطلاق مسار تغيير سياسي. فروسيا هي الأخرى تقع تحت عقوباتٍ أمريكية، عدا عن تضرّر مصالحها من العقوبات المفروضة على إيران، ويُضاف الآن عقوبات أخرى، في حين أنّها لا تميل إلى خرق العقوبات الأمريكية، خِشيَة خسارة مصالح واسعةٍ مع الولايات المتحدة، وإن كانت تقوم ببعض الخروقات، فهي تبقى غير علنية، وبشكلٍ محدود، وبعِلمٍ أمريكي. وبالتالي، نحن بانتظار، أن نرى مدى قدرة روسيا على التأقلم مع القانون، والآليات التي ستتّخذها للالتفاف حول القانون، أو إيجاد مخارج تحمي بها مصالحها في سورية.
إذاً، تأثير القانون في نظام الأسد، منوطٌ بثلاث جهاتٍ أساسية:
-        مستوى التصعيد الأمريكي اللاحق، وحدوده.
-        قدرة روسيا على التفاعل مع القانون، وبحثها عن مخارج ترضي الولايات المتحدة (تغييرٌ في داخل النظام، أو إجبار النظام على سلسلة تنازلات تقود نحو التغيير).
-        مدى استغلال المعارضة السورية للقانون، وتسريع الإفادة من الأجواء السائدة في البيت الأبيض، رغم أنّنا لا نعوّل كثيراً على هذا الحراك، وخصوصاً أنّه لم يكن مُجدياً في كثيرٍ من المواقف.
أمّا على مستوى التصعيد الأمريكي، فكان واضحاً، ومنذ اللحظة الأولى، حين أصدرت الولايات المتحدة، خطوتها الثانية، بعد إصدار القرار، عبر تحديد 39 فرداً وكياناً سورياً مُستَهدَفاً بشكلٍ مباشرٍ بالعقوبات الأمريكية. وعليه يكون القانون قد حاصر بعضاً من أهم رموز النظام السياسية والاقتصادية والعسكرية. وهو بذلك يُسهِّل عملية ملاحقتهم قانونياً، ويدفعهم إلى البحث عن وكلاء لأعمالهم الشخصية والعامة، ويخفض من قيمتهم داخل النظام نفسه (أعباء على استمرار النظام)، وبالتالي يزيد من هشاشة النظام.
وكان وزير الخارجية الأميركي واضحاً في بيانه الصادر في 17 حزيران/يونيو، والذي حدّد فيه أسماء الأشخاص والكيانات السورية المشمولة مباشرة بالعقوبات. وفي بيانه حدّد هدف الولايات المتحدة وآليات عملها في الأشهر القادمة، حيث أكدّ على:
-        مواصلة الحملة لأسابيع وأشهر.
-        استهداف كلّ الأفراد والشركات التي تُقدِّم دعماً لنظام الأسد.
-        استهداف كلّ من يعرقل الوصول إلى حلٍّ سلميٍّ وسياسيٍّ للصراع.
-        جَعَلَ من قرار مجلس الأمن 2254، مرجعاً للعمل الأمريكي.
-        توعّد بفرض سلسلةٍ أخرى من العقوبات، أكبر من سابقتها.
-        اشترط توقّف العقوبات، بوقف نظام الأسد الحرب، والموافقة على حلٍّ سياسي.
-        أكّد الوزير، على وجود عددٍ من الدول التي ستشارك في حملة الضغط السياسية والاقتصادية، وعلى رأسها الشركاء الأوروبيون.
فالقانون يسلب الأسد ودائرته الضيقة، كثيراً من مصادر القوة المالية والعسكرية، ويجعله مكشوفاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. فيما نتوقّع إصدار قائمة أخرى من الأفراد والكيانات السورية وغير السورية، لتُشكِّل تضييقاً إضافياً خلال الفترة القصيرة القادمة. عدا عن أنّ النظام قد خرج من سنوات الحرب على الشعب السوري، بخسائر فادحة، لا يمكن لأي نظام الاستمرار طويلاً معها، فوفقاً لدراسة أعدها "المركز السوري لبحوث الدراسات"، في أواخر أيار/مايو الماضي، فإن:
-        خسائر الاقتصاد السوري منذ بدء الحرب عام 2011 وحتى مطلع 2020، نحو 530 مليار دولار، ما يعادل 9.7 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2010.
-        نسبة الدمار في البِنية التحتية تجاوزت 40 بالمئة، وشملت أكثر من ربع المساكن ونصف شبكات الكهرباء ونصف المدارس والمستشفيات ومرافق الخدمات.
-        تراجع حاد في إنتاج النفط الخام، من 400 ألف برميل يوميا في 2010، إلى أقل من 30 ألف برميل يوميا حاليا، وفق تقديرات "بريتيش بتروليوم".
-        ارتفع الدين العام ليتجاوز 200% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما يقترب معدل البطالة من 50% مرتفعاً من 15% عام 2010، وبات 85% من الشعب السوري يعيشون تحت خط الفقر.
ختاماً، فإنّ القانون يُشكِّل أداةً مهمّةً للولايات المتحدة، لإثبات مدى تأثيرها في البيئة الدولية، ويفرض مساراتٍ سياسيةً تتّفق مع مصالحها الحالية والقادمة، ويضبط الشرق الأوسط وفق التصوّر الأمريكي. وعوضاً عن التعويل عن حلّ تقدّمه الولايات المتحدة، يبقى علينا نحن السوريون، المهمة الأكثر صعوبة، في الاستفادة من القانون، وصياغة مشروع حلٍّ متكامل، على أمل أن يكون لنا دورٌ في صياغة مستقبلنا، عوضاً عن أن يُفرَض علينا من خارجنا، أو ننتظر من الآخرين تقرير كامل مستقبلنا.


د. عبد القادر نعناع
باحث وأكاديمي سوري
صحيفة نينار برس