اضطرابٌ تاريخيّ: إشكاليّاتٌ في هُويّتنا الثقافيّة والسياسيّة





يُشكِّل التاريخ البيئة الأمثل (المَخْبَر)، للمشتغلين في السياسة، حيث يُوفِّر لهم قواعد بياناتٍ بالغة الأهمية، وأدوات تحليلٍ واختبار، بل وبيئةً للبحث عن مقارناتٍ تُفضي إلى حلّ استعصاء كثيرٍ من الأزمات، إن لم يكن جميعها، فهو بيئةٌ غنيةٌ سياسياً واجتماعياً.
لكن للتاريخ أبعادٌ أكثر أهميةً من ذلك بكثير، وما يدفعنا لكتابة هذا المقال، هو تصاعد دعواتٍ غير صِحيّةٍ، تطالب بالتحلّل من تاريخنا، والاشتغال على قاعدةٍ جديدةٍ "لا تاريخية"، استرشاداً بحالاتٍ طارئةٍ مُشوّهةٍ غير قابلةٍ للتعميم (إسرائيل، الإمارات)، أو استرشاداً خاطئاً بحالاتٍ كان حضور التاريخ في بنائها بالغ الأهمية، ولم يتم تجاوز البُعد التاريخي فيها كما يتمّ تصويره، بقدر ما تمّت إعادة صياغته خلال قرونٍ طويلة من التنمية السياسية.
أو نتيجة بروز تيارٍ مُعادٍ لتراكيب الهُويّة السورية بعموميّتها، مُحاولاً من خلال دعواته تلك إلغاء بعض تراكيبها التاريخية، وبناء هُويةٍ إقصائيةٍ جديدة، عقب الهُوية العَلمانية الطائفية التي شكّلها نظام الأسد منذ نصف قرنٍ أو أكثر.
نعم لدينا إشكال هُويتيٌّ ترافق مع استقلال الدولة السورية، فلم يَتسنّ لنا في العقد الأول المُضطّرب على مستوى الانقلابات العسكرية، أن نؤسِّس لهُويةٍ حداثيةٍ ما بعد عثمانيةٍ وما بعد فرنسية، رغم ما وقع من تحديثٍ مهم، لكنّها لم تتحوّل إلى هُويةٍ جامعةٍ متماسكةٍ قادرةٍ على إنتاج نظامٍ سياسيٍ-اجتماعيٍ حضاري، فيما كان العقد التالي أكثر اضطراباً سواءً لناحية إلغاء الهُوية السياسية السورية، وإلحاقِها بالهُوية المصرية (صهراً لا إدماجاً)، ثمّ العودة إلى حالة اضطرابٍ هُويتيٍ بالغِ الحدّة، غير واضح المعالم جغرافياً وتاريخياً وإثنياً.
حين دفع بنا البعث إلى دولته المُستحدَثة عام 1963، كان يَفرِض إطاراً للهُوية يمتدّ على امتداد العالم العربي، وفي حين كانت كلّ دولةٍ عربيةٍ تبني هُويةً لها مضبوطةً بحدودها الجغرافية، فقدنا نحن السوريون شرعية الكيان الجغرافي (على المستوى الشعبي)، وأصبح هذا الكيان في تفكيرنا: مؤقتاً لا قيمة له سياسياً، بانتظار الكيان النهائي "الوطن العربي"، وأصبحت العروبة في نظر المكوّنات الإثنيّة الأخرى تسلّطاً، وهو ما أنتج هُويةً سوريةً سياسيةً هشّةً قابلة للتفكيك والإلغاء، ساهم البعث الطائفي في تَبيِئَتها.
حين نتطرق لمصطلح "العَلمانية الطائفية"، فإننا نعني المرحلة الثانية من حكم البعث "الأسدية"، من خلال عَلمانيةً مُوجّهةً تتيح لأقلياتٍ طائفيةٍ الاشتغال الديني الطائفي وخلطِه بالسياسة خلطاً تسلّطياً غير عقلاني، في حين فرض النظام على الأكثرية الدينيّة فصلاً حاداً بين الديني والسياسي (فصلاً إقصائياً)، فهي عَلمانيةٌ تهدِيميّةٌ مُوجّهة، ساهمت في تحضير سورية للانهيار الهُويتي الكبير عقب عام 2011.
أحد مظاهر هذا الانهيار اليوم، تلك الدعوات -بعضها استمرارٌ لنهج العَلمانية الطائفية- التي تطالبنا بتفكيك تاريخنا، والاشتغال في عمليةٍ انتقائيةٍ لاختيار ما يناسب حالة "الحداثة الإقصائية"، بحجة أنّ تاريخنا عبءٌ على عملية التحديث الهُويتي، والمقصود هنا تحديداً، الإرث الإسلامي أولاً، والإرث العربي ثانياً وأخيراً. وهنا يتمّ محاولة استدعاء نماذج موغِلةٍ في التاريخية ومندثرة، لتعزيز العملية الإقصائيّة لأغلبية السوريين.
إنّ استهداف التاريخ بهذه الطريقة، هو استهدافٌ لكثيرٍ من مركّبات الهُوية السورية ببعدها الثقافي، والذي نعني به مجموعة الأدوات التي يحوزها السوريون في فهمهم لمحيطهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والتي تَضبِط سلوكهم تجاه هذا المحيط، وتساعدهم على عملية الإنتاج الثقافي المُتجدِّد. فإلغاء أو تفكيك هذا التاريخ انتقائياً، يعني سَلباً لأدواتٍ ثقافيةٍ نمتلكها نحن السوريون، ومحاولة استيراد أدواتٍ ثقافيةٍ لم تتم تبيئتها لدينا بعد، أو استدعاءِ أخرى مندثرة (حضارات ما قبل الإسلام)، وجعلها بديلاً لا نجيد استخدامه، ولا ننتمي له. بل إنّ بعض تلك الدعوات، تطالبنا بأن نكون مُجرّدين من أدواتنا كلها، دون بديل، وأن نعيد صناعة التاريخ السوري انطلاقاً من العدم.
نعم، نحن في الأساس، بحاجةٍ إلى عملية تحديثٍ ثقافيٍ طويلة الأمد، وشاقّة، لكن علينا الانتباه أنّ أيّة عمليةٍ تشمل فرضاً ثقافياً أجنبياً يترافق مع تفكيكٍ/تحطيمٍ للأدوات المحليّة (بشكلٍ قسري)، ستُنتِج صدمةً ثقافيةً تتسبّب في مقاومةٍ ثقافية، وبالتالي مزيدٌ من انغلاق الجماعات المُتضرِّرة ثقافياً على نفسها، وتعزيز خطوط الفصل الهُويتية والثقافية، والدفع نحو انفجاراتٍ اجتماعيةٍ جديدة.
أي أنّ الشقّ الأول من إشكالياتنا التاريخية هنا، هي إشكالياتٌ تفكيكيةٌ وتهديميةٌ وإقصائيةٌ وطائفيةٌ وعنصريةٌ وصداميةٌ، وتغريبيةٌ حادّة أو استدعائيّةٌ لأطلالٍ ثقافية.
في المقابل، بعض تلك الدعوات المُطالِبة بإعادة صوغ التاريخ، مُحقّةٌ جزئياً، فالتاريخ أصبح اضطراباً ثقافياً على جيلٍ أو أكثر، وانتقلنا من مرحلة استخدام التاريخ باعتباره أداةً ثقافية، إلى تقديس التاريخ (باعتباره دينياً)، واعتباره مُنجَزاً يُغني الأجيال الحديثة عن الاشتغال الحضاري (بل لا يجوز الاشتغال على تحديثه، نتيجة قدسيته)، فهذا التاريخ الضخم يُشكِّل مَصدَراً للاعتزاز الحضاري، دون أن يُشكِّل حافزاً حضارياً.
الإشكال الآخر في هذا الشق، أنّ هذا التاريخ الحضاري، المُترافِق بعجزٍ وتأخّرٍ/تخلّفٍ حضاريٍ مستمرٍ لقرون، قاد شرائح أخرى إلى مرحلة نكوصٍ تاريخيٍّ حادّ (المطالبة بالعودة إلى الماضي المضبوط عُثمانيّاً على الأغلب أو عباسياً/أموياً)، مرتبطٍ بذات القدسيّة التاريخيّة، إلى درجة أنّ هذه الشرائح باتت تبحث في أدواتٍ ماديةٍ وفكريةٍ بالغة القدم، لتكون بديلاً عن الأدوات الحضارية الحالية، وبالتالي انغلقت على ذاتها، رافضةً المُنجز الحضاري العالمي، أو حتى الاستفادة منه، ومُتسبِّبةً في تجهيل جيل أو أكثر، وما تزال الإشكاليات في هذا الشق مستمرة: الاعتزاز غير المُنتِج، والنكوص التاريخي، وقدسية التاريخ، والانغلاق على التاريخ.
إنْ كُنّا نروم حقاً بناء هُويةٍ حضاريةٍ جديدةٍ (حداثيةٍ على الأقل)، فعلينا أن نُحدِّد إشكالياتنا كلّها، وأن نعلم أن الاشتغال على بناءٍ هُويتيٍّ هشٍّ قائمٍ على قواعد مُهدّمةٍ لن يُقدّم لنا سوى بناءٍ هُويتيٍّ مُضطربٍ قابلٍ للتهديم عند أول تأزّم، وأنّ البديل المُتاح هو بديلٌ ينهض على أسسٍ تاريخيةٍ يُضاف إليها أدواتٌ حداثية، في عملية إنتاجٍ مستمرٍّ وطويل الأمد لهُويةٍ حداثية، وهو ما يعني أن نكون حريصين على تجنّب الصدمات الثقافة الحادّة المُنتِجة للمقاومة الثقافية، دون عملية إقصاءٍ عُنصريةٍ تستهدف جماعاتٍ بعينها أو ثقافتها.
وأن نشتغل على أنّ الهُوية الحضارية هي تلك القابلة لاستيعاب الكلّ فيها، الكلّ معنى المكوّنات القائمة اليوم، والجديدة لاحقاً، وحضاريةٌ بمعنى أنّها قابلةٌ للتعميم، وحضاريةٌ بمعنى الانفتاح والإنجاز والإضافة، وحضاريةٌ بمعنى التعدّدية وقبول الآخر، وحضاريةٌ بمعنى الاستمراريّة التاريخيّة.

د. عبد القادر نعناع
باحث وأكاديمي سوري
نينار برس