إعادة اغتيال الشهيد الحريري: رسائل سياسيةٌ دولية





بعد ساعات قليلة من الاجتياح العراقي للكويت فجر 2 آب/أغسطس 1990، كان مجلس الأمن الدولي قد انعقد وناقش قضية الغزو وأصدر أول قراراته. هي ساعاتٌ كانت كافيةً للإدانة والتهديد، وإصدار قرارٍ لم يُمهِل العراق سوى أربعة أيامٍ لتنفيذه، قبل أن يصدر القرار التالي مباشرة.
وبالمجمل كانت فترة أربعة أشهر ٍكافيةً لمجلس الأمن، لاتخاذ قرارٍ ببدء عملٍ عسكريٍ ضدّ العراق، وإطلاق يد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهو ما أوحى -مؤقّتاً- بنمطٍ جديدٍ من العلاقات الدولية، يكون فيه لمجلس الأمن والمنظّمات المتفرِّعة عنه، دوراً مهمّاً في قيادة النظام الدولي، لكن ذلك لم يكن، حيث أُعيد تعطيل هذه المنظومة بمجرّد تدمير العراق أبديّاً.
ما نقصده هنا، أنّ الإرادة الدوليّة المُتحكِّمة في مسار الأحداث الكبرى (وهنا هي إرادةٌ أمريكيةٌ مطلقة)، كانت ذات مصلحةٍ في إعادة ضبط النظام الدولي ما بعد الحرب الباردة، وتأكيد هيمنتها المطلقة سياسياً وعسكرياً وعلى مستوى منظمة الأمم المتحدة، لذا كانت قضية الاجتياح العراقي للكويت، جِدُّ مناسبةٍ لتأكيد هذه الهيمنة الأمريكية.
بالعودة إلى قضية اغتيال الشهيد رفيق الحريري، حيث لم يكن من المتوقّع -للبعض على الأقل- أن تخرج المحكمة عن ذات السياق الذي أصدرت فيه حكمها، فبعد خمسة عشر عاماً مهدورةً من التاريخ السياسي اللبناني (عدا عن الهدر المالي)، سُمِح طيلتها لحزب الله ونظام الأسد، الاشتغال على تحويل لبنان إلى دولةٍ هشّةٍ/فاشلة، وبؤرة تهديدٍ لكامل الشرق الأوسط، ومنطقة تصفية نزاعات، واستنزاف تمويلاتٍ دولية، بعد ذلك كله، كان المشهد واضحاً أنّ المطلوب الاحتفاظ بذات الفوضى اللبنانية، أي بذات القوى السياسية المُتسبِّبة بهذه الفوضى القاتلة.
لا نقصد بذلك أنّ المحكمة الدولية، ومن خَلفَها من قوى كبرى، تتواطأ مع حزب الله، بل المقصود أنّ المحكمة أتت تعبيراً عن الإرادة الدولية، الراغبة في ترك أحد أبرز مسببّات الفوضى مشتعلاً وقائماً في شرق المتوسط، بُغية تفجيراتٍ مستمرةٍ تؤدي إلى مزيد من تفكيك للمنطقة.
كانت الأدلة واضحةً لكل المتابعين -وهنا أتذكّر جيداً حجم الابتهاج الذي كان يطلقه أنصار حزب الله في سورية مع كل اغتيال يقع في لبنان-، بل إنّ رفض حزب الله ونظام الأسد، منذ اللحظة الأولى لهذه المحكمة، هو بحدّ ذاته دليلٌ على قلقهم من كشف تورّطهم المفضوح في اغتيال الحريري. وكانت إدانة الحزب أو على الأقل شخصياتٌ عليا في نظام الأسد، كفيلاً بأن يرفع معنويات القوى المتضررة في لبنان (الطرف السني)، وأن يمنحهم بعض الرضا عن النتائج، وأملاً حقيقياً بتطبيق الحكم على الجناة لاحقاً، وهو ما يعني تسويةً اجتماعيةً أيضاً. ويبدو أنّه ولزيادة الضغط على هذه القوى، خرج سعد الحريري مُنكسِراً بعد المحكمة أكثر ممّا هو عليه منذ عام 2017، وهو بالأساس لم يكن قادراً على حمل تَرِكَة والده في بيئة شديدة التجاذب، وشديدة التدخّل الخارجي الهدّام (من كلّ الأطراف).
وبالتالي يُشكِّل هذا الحكم، مُسبِّباً إضافياً لرفع مستوى الحنق لدى القوى المتضررة من هيمنة حزب الله على لبنان (وتحديداً الطرف السني)، وخاصّة أنّ القرار منح للحزب أرضيةً جديدةً لمهاجمة خصومه، وتبرئة ذاته كلياً، رغم عدم اعترافه بالمحكمة وبكلّ ما يصدر عنها. وخصوصاً أنّ لبنان غير مستقرٍ منذ إنشائه كدولةٍ مستقلة، فتوازنات القوى الإثنية فيه هي من يتحكم في المشهد السياسي ككل، وهذه التوازنات، هي تعبيرٌ واضحٌ عن حجم التدخل الدولي (والمسلّح أحياناً) دعماً لطرفٍ على حساب آخر، أو رغبةً دوليةً في إعادة ضبط المشهد اللبناني بما يحافظ على مستوى مضبوطٍ من الفوضى، والتي لن يكون بالإمكان تغييرها إلا عنوةً وباستخدام مُفرِطٍ للقوة المسلّحة.
صدور قرارٍ مخيّبٍ للآمال، يؤكّد أنّ محاكمة الحزب حالياً أمر غير وارد، وبالتالي استحالة محاكمته عن انفجار مرفأ بيروت، وعن الفساد الذي أغرق فيه لبنان، وعن تورّطه في عمليّاتٍ مالية غير شرعيةٍ على امتداد العالم، وعن مشاركته المباشرة في جرائم الحرب ضد الشعب السوري والعراقي واليمني، وعن جرائمه في اغتيال رفاق الشهيد رفيق الحريري، وعن رهن لبنان وسياسته واقتصاده ومستقبله لصالح ملالي إيران.
هي رسائلٌ أيضاً لنا نحن السوريون، بأنّه حتى في حال توفّرت إرادةٌ دوليّةٌ لإحداث تغييرٍ في شكل النظام السياسي السوري، فإنّ هذه الإرادة لن تذهب إلى محاكمة المسؤولين الرئيسين عن جرائم الحرب (عائلة الأسد والمقرّبين منها)، وأنّ علينا ألا نأمل كثيراً في المحاكمات الدولية، وفي "الأصدقاء" الدوليين، بقدر ما نشتغل على بناء محاكمنا الخاصة بنا.
بل يتّفق كثيرون منّا، اليوم، على أنّ قرار المحكمة، كان بمثابة إعادة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، إلى جانب مئات آلاف ضحايا إجرام حزب الله على امتداد المنطقة.

د. عبد القادر نعناع
باحث وأكاديمي سوري
نينار برس