ضربات متتالية للديموقراطية العالمية




تعتبر الديموقراطية، تاريخياً، أكثر أنظمة الحكم التي وفرت مساحة مهمة لحقوق الإنسان وحرياته السياسية والاجتماعية، ورغم كثير من مثالبها، وتحفظات خبراء وأنظمة حولها، باعتبار أنها ليست أنجع أنظمة الحكم، إلا أنها تظل أقلها سوءاً حتى الآن، والأقدر على توفير محاسبة للسلطة، ومشاركة سياسية، بل وتمثل سداً مهماً أمام الأنظمة التسلطية المناهضة لحقوق الإنسان وحرياته.

صحيح أن الديموقراطية تعززت على مستوى العالم، طيلة القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، لتشمل كثيراً من دول العالم (غير الحر)، إلا أنها تشهد في السنوات الأخيرة، محاصرة حقيقية، من قبل الأنظمة التسلطية، وهي محاصرة مدعومة من أنظمة تسلطية عالمية (في مقدمتها روسيا والصين)، إلى جانب ديكتاتوريات تقليدية منتشرة في عدة أقاليم، ما قاد إلى انتكاس مسار الديموقراطية في عدة دول، سواء لناحية تراجع أداء السلطة ديموقراطياً، أو بروز نزعات تسلطية سلطوية أو شعبية، وحتى النكوص إلى مراحل سابقة للديموقراطية.

هذه التيار يتحمل قسماً من مسؤولية إخفاق موجة الديموقراطية العربية حتى الآن، بل ودفع ببعض دول المنطقة إلى حالة استبدادية أشد مما كانت عليه قبل الثورة. بدعم مزدوج من قبل روسيا والأنظمة الملكية الأكثر تسلطية في العالم العربي. فرغم أن الحراك الاحتجاجي العربي استهدف أنظمة جمهورية عسكرية استبدادية، مناهضة بدروها للأنظمة الملكية التسلطية التقليدية، إلا أنه مع انفجار الاحتجاجات العربية، أدركت كل الأطراف (الأنظمة العسكرية الجمهورية، والأنظمة الملكية التقليدية، والشعوب العربية)، أن نجاح حالة من حالة الاحتجاج سيعني انتقال التجربة إلى دول عربية أخرى، ضمن نظرية تأثير الدومينو، لذا تعاضدت جهود الأنظمة التسلطية في العالم العربي (فيما يمكن تشبيهه برابطة الديكتاتوريات)، لمناهضة التيار الديموقراطي الناشئ، وتمت محاصرته في تونس التي لا تشكل بمفردها نموذجاً قابلاً للتعميم، مقابل دعم نظام أكثر تسلطية في مصر التي تعتبر قاطرة مهمة للتغيير في المنطقة، وفي ذات السياق تم دعم استمرارية ديكتاتورية بشار الأسد، ونشر الفوضى العسكرية في اليمن وليبيا، إضافة إلى الفوضى المستمرة في العراق ولبنان.

تعثر الديموقراطية عربياً سيؤثر حتماً في مسارها العالمي، فكما أن انتقال واحدة من أكثر مناطق العالم انغلاقاً سياسياً نحو الديموقراطية، سيعزز التوجه الديموقراطية العالمي، كذلك تعزيز التسلطية فيها سيعزز التيار المقابل، المدعوم روسياً وصينياً.

وفي حال وضعنا هذه النتائج في سياق العلاقات الدولية، نرى أن تلك النتائج تصبح في صالح المعسكر التسلطي، وتعزز حضوره العالمي، وترفع من مستوى تنافسيته مع الولايات المتحدة ومعسكرها الديموقراطي.

وقد ساهم وباء كورونا، والإجراءات الحكومية الحادة في كثير من دول العالم، بما فيها تقييد الحركة، وفرض قوانين عرفية، وصولاً إلى توظيفات سياسية لصالح الأنظمة التسلطية، ساهم كل ذلك، في تعزيز موقف الدول التسلطية، على المستوى الحكومي، وامتداداً إلى تيارات شعبية وجدت أن الأنظمة التسلطية أكثر قدرة على مواجهة الوباء. وهو اعتقاد مشوه، ناتج عن غياب شفافية تلك الأنظمة في الإعلان عن مستوى الوباء وأضراره وآليات التعامل معه، أكثر من كونه نجاحاً للتسلطيات في مواجهة الوباء مقابل فشل الديموقراطيات.

صحيح أن التسلطيات أسرع في اتخاذ القرارات الخاصة بإدارة شؤون الدولة، وبالتالي أكثر قدرة على الاستجابة للتحديات، لكنها في المقابل، أقل مسؤولية عن تلك القرارات، ولا يمكن محاسبتها على إخفاقها، على عكس الديموقراطيات التي تضع في عين اعتبارها المحاسبة اللاحقة على قراراتها.

إخفاق الديموقراطية في مناطق عدة، له كثير من المسببات، لكن المتغيرات الجديدة، أضيفت إلى المسببات التقليدية المتمثلة في الفقر والفساد والنزاعات السياسية والأيديولوجية، التي تدفع الشعوب إلى تفضيل التسلطيات أو تتيح فراغاً في السلطة يسمح للقوى التسلطية أن تملأه.

وهنا، نعتقد أن ما يجري في الولايات المتحدة حالياً، عبر حركة Proud Boys، والتي تمثل تصاعداً للتيار الشعوبي ذي الميول التسلطية (الشعبوية هي بشكل أو بآخر انقلاب على الديموقراطية من داخلها)، حتى شكل خطراً على أعرق الديموقراطيات العالمية. هذا الحراك، والذي من المتوقع أن يتفاعل بنيوياً –داخله-، وعلائقياً –مع محيطه-، في الفترة القادمة، سيكون له كثير أثر في تعزيز معسكر التسلطيات عالمياً، إن استطاع تحقيق منجز له في الساحة الأمريكية بغض النظر عن شكل هذا المنجز.

بالدرجة الأولى، هي مسؤولية الدول الديموقراطية الكبرى، فيما يمكن تسميته تعاضد الديموقراطيات، لمنع تصاعد هذه التيارات الشعبوية –والتي تشهد تصاعداً في أوروبا كذلك-، من جهة. وفي تعزيز التحركات الاجتماعية الدافعة نحو الدمقرطة عالمياً، ضمن صراع دولي بين معسكرين، يتبلور أكثر فأكثر. وهو ما يعني أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية كبيرة في خذلان التحول الديموقراطي العربي، وتعزيز علاقاتها مع التسلطيات والديكتاتوريات العربية، عوضاً عن أن تسير في نهج معاكس تماماً، وهو ما يفترض بالإدارة الأمريكية الجديدة أن تشتغل عليه داخل الولايات المتحدة وخارجها.

 

د. عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري