الحاجة إلى كتلة تغيير ديموقراطي

 

الحاجة إلى كتلة تغيير ديموقراطي

 


يبدو أنّ المشهد الإقليمي يتحضّر لجملة تغييرات، هي نتيجةٌ لمتغيّراتٍ نسبيةٍ وقعت في السياسات الأمريكية، ولمتغيّراتٍ أخرى في المشهد الإقليمي، توحي بتهدئةٍ عقب عَقْدٍ من الأزمات الإقليمية. وربّما تكون تلك البداية الليبية محطةً أولى تليها محطّاتٌ تطال اليمن وسورية والعراق وسواها، لكن دون كثير تعويلٍ عليها أو على نجاحها، وخصوصاً أنّ الملفات الإقليمية هي ملفاتٌ بالغة التعقيد من جهة، وبالغة التشبيك مع قوى خارجيةٍ من جهةٍ ثانية، فهي لم تعد -منذ زمن- أزماتٍ محليّةً في تلك الدول، بل باتت أشبه بأزماتٍ دوليةٍ في منطقة الشرق الأوسط.

ففي المشهد السوري، يتصاعد الحراك الإقليمي والدولي، أملاً في خلق مسارٍ جديدٍ يفضي إلى تغييرٍ سياسيٍ بشكلٍ أو بآخر، ونبقى نحن السوريين غير قادرين على حسم هذا الأمر منفردين، ونقصد أنّه لم يعد بمقدورنا حسم الولوج إلى المرحلة الانتقالية، بقدر ما هي نتيجةٌ لتوافقاتٍ دوليةٍ وإقليمية، هذا من جهة. عدا عن أن ترتيبات ما قبل المرحلة الانتقالية، هي أيضاً ترتيباتٌ دوليةٌ بين قوى الاحتلال في سورية من جهة، والقوى الإقليمية ذات المصلحة في سورية من جهةٍ ثانية، في وقتٍ تبدو فيه المعارضة السورية أضعف ما تكون، وخارج الحسابات الدولية والإقليمية في تحضير تلك الترتيبات.

ما نقصده هنا، أنّ أيّ اشتغالٍ سوريٍ - لقوى المجتمع المدني- بشكلٍ منفردٍ ، لإنتاج ترتيبات المرحلة الانتقالية أو الولوج فيها، دون توافقٍ دولي، ربّما يكون جهداً مهدوراً نحن بأمس الحاجة إليه في المرحلة الانتقالية، إن وقعت. في المقابل، يكمن لنا أن نشتغل على تعزيز كتلة تغييرٍ ديموقراطي، منذ الآن، والعمل على توفير عوامل نجاحها.

ما نقصده بكتلة التغيير الديموقراطي، هي تلك القوى القادرة على إدارة المرحلة الانتقالية وما بعدها، والتوافق فيما بينها، على بناء هُويّةٍ سوريةٍ جديدةٍ وأُطُرٍ دستورية تتّسع للكل. طبعاً لا نعني بها تياراً سياسيّاً محدّداً، بل نجد أنّها تتمثّل عبر تحالف قوى: ليبراليةٍ ورجال أعمالٍ وكفاءاتٍ وطنيةٍ غير متحزّبةٍ وقوى شبابيةٍ إسلاميةٍ معتدلةٍ غير متحزّبةٍ أيضاً إلى جانب قوى أقلويةٍ معتدلةٍ قدر الإمكان (وفي اعتدالها حديثٌ كثير). هذه التوليفة هي تعبيرٌ فعليٌّ عن المشهد السياسي الحالي والمستقبلي، على خلاف القوى التقليدية التي كانت تعبيراً سياسياً عن مرحلة تاريخية سابقة.

بمعنى آخر، ربّما يتوجّب علينا إعادة صياغة المشهد السياسي على مستوى القوى الفاعلة السورية، كما حصل تماماً في سنوات ما بعد الاحتلال الفرنسي، عندما بدأت أدوار القوى التقليدية (حزب الشعب والكتلة الوطنية) تتراجع بشكلٍ كبيرٍ لصالح القوى الجديدة آنذاك.

أمّا اليوم، فتتمثّل القوى التقليدية التي نعنيها، والتي انحسر جمهورها ودورها وفعاليتها كثيراً، في: البعث واليسار والإخوان، والتي ظلّت أسيرة أيديولوجيّاتها التي رَحَّلَتْها معها من القرن العشرين إلى هذا القرن، فكانت عقيمةً غير قادرةٍ على فهم المتغيّرات الجديدة من جهة، وعلى إدارة المشهد والتجاوب مع التحديات الكبرى التي أطلقتها الثورات من جهةٍ أخرى.

أمّا الفئة الثالثة من القوى التي ستشكّل تحدّياً خطيراً لنا في المرحلة الانتقالية، فهي قوى النظام السابق (حين يصبح سابقاً)، وهي قوى ستظل حائزةً على قسم لا يستهان به من قوتها، وجاهزةً للانقضاض على المرحلة الانتقالية، من خلال الفجوات التي ستخلِّفها أيّة نزاعاتٍ قد تندلع بين القوى السياسية على ترتيبات المرحلة الانتقالية وما بعدها.

وفي الفئة الرابعة، ستظهر لنا، قوى التطرّف الشعبويّة، وهي تمتدّ على تياراتٍ عدّة، سواء أكان التطرّف علمانياً أو إسلامياً أو أقلوياً، وهي أيضاً قوى خطرةٌ على المشهد الانتقالي، وخصوصاً أنّها صاحبة خطابٍ شعبويٍّ يحوز جمهوراً لا يستهان به، وقادرةٌ على فرض ذاتها على الترتيبات الانتقالية. هذا الفرض يعني بشكلٍ أو بآخر إخفاق المرحلة الانتقالية وخلق فجوات لقوى النظام السابق من جهةٍ ثانية، أو تحويل مستقبل البلاد القريب والمتوسط (وربّما البعيد)، إلى مستقبل محاصصةٍ سياسيةٍ على النمط اللبناني الذي يفتعل منذ عام 1990.

في هذه الأثناء، تشتغل القوى التقليدية والشعبوية، على تحويلنا إلى جمهورٍ خاصٍّ بها، أو إعادة إنتاج مشهد الحاضن الاجتماعي لها، من خلال إشغالنا بنقاشاتٍ أو نزاعات، حول ميولنا الفردية تجاه شخصياتٍ بعينها في مواجهة أخرى، يمثّل كلٌّ منها مصالح تيارٍ أو جهةٍ منها، وهو بالأساس اشتغالٌ لا يخدمنا، بقدر ما يخدم استمرار تلك القوى التقليدية أو الشعبوية، ويخطف منا فرصة تحوّلنا من رعيةٍ إلى فاعلٍ اجتماعي-سياسي.

ما أجده أكثر جدوى من ذلك على المستوى السياسي، هو اشتغالنا، كلٌّ وفق توجّهه الهويتي أو السياسي، على دعم بناء كتلة تغيير ديموقراطي، قادرة على إدارة المشهد السوري، وفق فهمٍ وأدواتٍ معاصرة، وليس عبر أدواتٍ أيديولوجيةٍ بالية. هذه الكتلة، نعتقد أنّها الأقدر على التعامل مع المشهد السوري المنهار كلياً، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والهويتي والمادي، والأقدر على التعامل مع قوى الاحتلال وما يترافق معها من ميليشياتٍ أجنبيةٍ وتنظيماتٍ إرهابيةٍ عابرةٍ للحدود ونزعاتٍ انفصالية.

 

د. عبد القادر نعناع