التطرف والتطرف المضاد في الخطابات العربية

 




إنّ المسؤول الأول عن انتشار التطرّف بين المجتمعات العربية، هي تلك القوى السياسية التي تدفع جمهورها نحو خطاب التطرف والعصبوية، في مواجهة القوى السياسية الأخرى. وتأمل من خلال هذا التطرّف والتطرّف المضاد أن تجني مكاسب سياسية تعزز موقعها.

هنا، سيعتبر البعض ذلك بأنه مقصود به الإسلاميون الأيديولوجيون وحدهم، كونهم يشتغلون عبر محاولة احتكار الإسلام وبالتالي احتكار الجمهور والمنافع، لا أبداً، بل هم جزء من كل. ففي المقلب الآخر (العلماني بشكله الإلحادي)، تجاوز دفعهم السياسي في شحذ تطرف جمهورهم إلى التطاول على الإسلام كثقافة ودين الأغلبية. وساهموا من حيث لا يدرون، بدعم فكرة الإسلاميين بأن الإسلام حكر على الإسلاميين الأيديولوجيين، وليس فضاء رحباً للجميع.

وكثيرٌ مما يقال عنه تنوير عربي، هو في حقيقته تطاول متعمد وخطاب كراهية ذي أبعاد سياسية وهويتية تدميرية، أي أنه كراهية للذات العلمانية-الملحدة كونها لا تنتمي للثقافة الإسلامية (المقصود الإسلام كثقافة وليس كدين)، وكراهية للثقافة الإسلامية كونها سائدة بين الجمهور، وكراهية للجمهور كونه يتبع لها. بل وإهانة لهم عبر وصمهم بالتخلف والجهل كونهم مسلمين (كأن يتم الهجوم على المعتقد أو العبادات أو الزي).

هذا انبنى عليه الاشتغال على بناء ترهات فلسفية، لا ترقى إلى مستوى الفلسفة حتى، ومحاولة تصديرها عبر إعلامهم بأنها "الإسلام الجديد" أو "الإسلام المتنور"، وهي فعلياً لم تطلّع على الإسلام من مصادره أو لم تناقش أصحاب العلم، وهو واضح في كثير من كتابات هؤلاء "التنويريين"، الذي كانوا من الضحالة ما يُمكّن طلاب مدارس شرعية إعدادية من الرد عليهم. هذه النخب في الأساس، ترفض الإسلام كدين وكثقافة وكعلم، في تناقض تام مع طروحاتها في الدمقرطة والتسامح والوطنية المتساوية للجميع، فالجميع هنا لا تشمل المسلمين.

هذا ما دفع جمهوراً كبيراً من المسلمين، إلى مزيد من التطرف في مواجهة ما يراه إهانة وتهديماً لمعتقده، بل ما دفع بعض هذا الجمهور أحياناً إلى رفض اللبرلة والدمقرطة وقضايا حقوق الإنسان، حيث أنها ترتبط في وعيه بتلك الحراكات النخبوية "العلمانية الإلحادية".

إذاً، بعض المشكلة (وهو بعض كبير الأثر)، هو خطاب ما يسمى النخب على شكليها، الإسلامية الأيديولوجية والعلمانية الإلحادية. فمن يسعى لبناء هوية وأمة والارتقاء بها، من المفترض أن ينبذ هذين الخطابين أولاً، انطلاقاً من ذاته، لا أن ينحاز عصبوياً ومصلحياً/سياسياً إلى أحدهما، ثم أن يقر بالخطيئة الواقع في الخطابين، ثم أن يشتغل على توسيع الجمهور الثالث، أي الرافض لكلا الخطابين، لا أن يكون محرضاً على التطرف والتطرف المضاد.

 

د. عبد القادر نعناع