العزوف عن الشأن العام

 



كنت أستغرب عزوف بعض الأصدقاء عن المشاركة في الشأن العام "رأياً وفكراً"، رغم أني كنت أرى فيهم أهلاً لذلك، في حين يشتغل كل من لا شغل له في هذا الشأن، ومن ليس أهلاً له.

اليوم، أُقرّ بأنّ الاشتغال في شأننا العام، في حالنا هذه، هو المحرقة بعينها، فإمّا أن تنحاز لأحد أطراف تطرّف يملكون الجمهور والعدّة، وإما أن تكون هدفاً لكل الأطراف.

طبعاً كلّ طرف متطرّف يرى في نفسه الاعتدال، وفي خصمه الغلو، ولا سلطة تحكم بينهما (فقد هدمناها منذ زمن). وهذه طامة أخرى، حيث بات التطرف لدى كل جمهور "اعتدالاً".

أصلاً، مفهوم التطرف في حد ذاته ضاع مع كثير من المفاهيم السياسية التي ضاعت، أو تم تشويهها عمداً، ووضع لها الشعبويون تعاريف تناسبهم. عدا عن أن المشتغلين الجدد لم يكونوا على اطلاع على كثير من المفاهيم السياسية، لذا ساهموا أيضاً باختراع مفاهيم تناسبهم، دون أن يبحثوا فيها قليلاً (وهذا موضوع مختلف)، حيث طال التمرد السوري أيضاً كل السلطات ومنها السلطة العلمية التي أهينت بشدة خلال هذا العقد (كونها سلطة يجب هدمها).

بالعودة إلى الموضوع، فإن كل جمهور هنا، لا يقبل أي رأي مخالف لرأيه، ولا يقبل بالمواقف المعتدلة بين حدي التطرف، ولا يقبل العمل على تسوية يخرج فيها الجميع خاسراً أو الجميع رابحاً، ولا يقبل الآخر. وكل منهم يتطلع إلى معادلة صفرية "أنا موجود والآخر ملغي".

بل تجاوز الأمر حدوده، في الانهيار السوري العظيم والشامل، حين أصبح كل طرف يصنع للآخر ثقافته ويطالبه بالالتزام بها، كونها الأكثر سلامة من الثقافة التي يحوزها. بمعنى رفض كل طرف لخصوصيات الطرف الثاني الثقافية، وفرض خصوصيات تناسب الطرف الأول، وهنا اشتدت الخصومة بيننا أكثر بكثير (ولا سلطة تفض الخصومة، فقد هدمنا).

اليوم، أدرك كيف أن كثيراً من الأصدقاء، ومنهم أصحاب اختصاص فكري وشهادات دكتوراه، لم ينبس أحدهم ببنت شفة، لا خوفاً ولا تحاشياً، ولا مهادنة، ولا حماية لخلاصه الفردي الذي صار سمة سورية أصيلة (ربما هو قائم فينا منذ الأزل)، بل حماية لصحته الجسدية والنفسية.

وأقر أننا بتنا بأمس الحاجة إلى سلطة تضبطنا.