في تجديد الخطاب الديني

 


في فترات مضى، شدني مصطلح تجديد الخطاب الديني، كما يشد كثيراً من الشباب، وكنت أعتقد أنه دعوى حق يراد بها عملية إنهاض المجتمع/الأمة من هذه الكبوة، حيث يتحمل الخطاب الديني التقليدي مسؤولية التردي الثقافي والعلمي، وفق دعوات هذا المصطلح. وطبعاً هو هدف نبيل سيسعى له كل من يؤمن بأحقية مجتمعه بالنهوض والارتقاء إلى جانب مصاف أمم أخرى.

لكن مع الغوص في اتجاهين، الأول في المصطلح ذاته "تجديد الخطاب الديني"، والثاني في الخطاب الديني ذاته، خلصت إلى مجموعة قناعات جديدة، مختلفة تماماً عما كنت أعتقد أن المصطلح وأصحابه يرمون إليه.

يمكن أن أقول اليوم، بكثير من الثقة، أن من يشتغل على هذا المصطلح، إما أنه لم يدرك حقيقته بعد، أو أن الهدف الحقيقي لديه هو إلغاء الإسلام بشكله العلمي القائم الممتد على قرون طويلة، وإنتاج إسلام فلكلوري لا قيمة دينية أو سياسية أو ثقافية له، تسمح لخصومه بالتلاعب به قد المستطاع، ومن ثم تسمح له ببناء جمهور سياسي يخدم برامج هذه الأطراف.

بل إن كثيراً ممن يتداول هذا المصطلح، لا يتداوله بهدف علمي، بقدر ما هو هدف سياسي هويتي، بمعنى إلغاء الخصم/المنافس إلغاء كلياً، وحيث أن هذا الإلغاء غير ممكن، فيتم الاشتغال على بناء إطار يمنعه من الحضور الفعال، عبر "تجديد الخطاب الديني"، أو تحديد شكل ثقافة الآخر باعتباره متخلفاً غير قادر على إنتاج الثقافة المعاصرة، وهذا خطاب استعلاء وكراهية. أي أن كثيراً من أصحاب هذا الاتجاه، لا يعنيهم كما كنت أعتقد "محاصرة الخطاب المتطرف"، وبالمناسبة فإن الخطاب المتطرف هو سمة كل الخطابات، وسمة كل المجتمعات المنهارة، وسمة كل الظروف المعسكرة.

أي أنهم لا يبحثون عن إقصاء أحد أشكال التطرف، وهو التطرف الديني، ضمن عملية إقصاء كل تطرف، بل هم يبحثون عن إقصاء الدين المؤسسي العلمي المبني على قواعد ثابتة وواضحة وراسخة.

وخصوصاً، أنهم يحمّلون الخطاب الديني كما يزعمون، مسؤولية الانهيار الحضاري، لكنهم لا يحمّلون الأنظمة الاستبدادية التي قمعت كل شيء، المسؤولية ذاتها.

هنا أنتقل إلى الشق الثاني، فأنا لست مختصاً بشؤون العقيدة، ولا أمتلك قدرة على نقاشها، كما يفعل غالبية الناس ويصرون على ذلك، لذا طالما ألجأ إلى مراجع دينية حتى أفهم منها كثيراً من الطروحات والإشكاليات (أهل الذكر أو أهل الاختصاص).

ومن خلال وجودي في مصر، تسنى لي التقرب من بعض علّامات الأزهر، ومن ثم من خلال التقرب من مؤسسة العلّامة ابن بيه، تسنى لي التقرب من الفكر المالكي، والذي تعزز من خلال متابعتي للعلّامة الكملي. وهنا وجدت أن الخطاب الديني هو في عملية تجديد مستمر لم تنقطع أبداً، وأن هاتين المؤسستين (الأزهر ومجالس الموطأ)، على الأقل، تشتغلان على تبيئة خطاب إسلامي عقلاني علمي معتدل متسامح رحب، بل وتحاصر قدر الإمكان خطاب التطرف.

لذا فإن لها عدة خصوم، خصم ديني متطرف أو متشدد، وخصم سياسي وأقصد به الإسلام الأيديولوجي، وخصم هويتي متطرف في الجهة الثالثة علماني إلحادي صاحب خطاب كراهية.

وعليه، وجدت أن من يطالبنا بتجديد الخطاب الديني، لا اطلاع دينياً لديه أولاً، بل ترديد مقتطفات من كتب صفراء شاذة لا قيمة علمية لها، ثم هو يرفض كل خطاب علمي، بل يرفض أن يكون النقاش علمياً، حيث يروج لفكرة أن الدين ليس بعلم، بل فطرة غريزية كالطعام والماء، لا حاجة إلى تعلمه، وبالتالي لا حاجة إلى أستاذة يعلمونه وبالتالي لا حاجة للمؤسسات والنتاج الفكري لأربعة عشر قرناً. لذا يحارب كل المؤسسات العملية، لصالح شخصيات لا قيمة علمية لها سوى هذا الخطاب الإقصائي التهديمي.


د. عبد القادر نعناع