السلطة هي العلة الأولى


 


يتداعى كثيرٌ لنقد تأخر مجتمعاتنا، عبر منهج مجتزأ، يركز على جانب من جوانب التأخر أو التخلف، وإهمال الجوانب الأخرى، بل وإهمال علل عليا هي المسؤولة عن العلل اللاحقة.

ما نقصده هنا، أن بنية مجتمعاتنا، متخلفة في كثير من نواحيها، بل نكاد نعتقد أن بعضها يطاله تخلف عام في غالبية مناحيه، وهي نتيجة حتمية بالنهاية، فلا يمكن أن نرى تخلفاً علمياً أو أخلاقياً أو اقتصادياً فحسب، بل إن التخلف في منحى يقود إلى تخلف ثانٍ وثالث، هكذا حتى يعم في كل المناحي.

ورغم أن ضبط عملية التخلف/الارتقاء بمجتمع ما، هي مسؤولية سلطوية ونخبوية ومجتمعية معاً، لكن تبقى المسؤولية السلطوية هي الأعلى وهي المتحكم في كافة المسؤوليات الأخرى، بمعنى أنه لا يمكن الاشتغال على انتشال مجتمع ما من تخلفه الجزئي أو العام، طالما أن السلطة السياسية الحاكمة والضابطة للمجتمع، هي سلطة متخلفة أو قمعية استبدادية فاسدة، تمنع الاشتغال على إصلاح بنى المجتمع والدولة.

في توضيح آخر، يحيل البعض من المشتغلين بالشأن العام، مشكلة التخلف إلى مشكلة جندرية، وآخرون يرونها قابعة في تطرف ديني أو علماني، وجماعة تحيلها إلى تأخر اقتصادي وضعف موارد مالية، وسوى ذلك من طروحات نراها مجتزأة من كلّها. إذ تؤدي التسلطية في البنى السلطوية إلى تهديم كل اشتغال نحو الارتقاء من جهة، وتسمح للتطرف بكل أشكاله أن يكون حاضراً من جهة ثانية، ثم إنها تسمح بالتشارك مع التطرف الذي وفرت له بيئة مناسبة، بتهديم المجال الاجتماعي وتفريقه، وفتح المجال أمام الفساد بكل أشكاله المادية والقيمية، وهذا ما يخلق بيئة مناسبة للتخلف العام، ثم التطرف العام.

صحيح أن الاشتغال على محاربة أشكال متعددة من التخلف/التأخر، والعمل على إصلاح بنيات خطابية وقانونية وإدارية، هو أمر بالغ الضرورة، لكن لا أعتقد أنه بالإمكان الوصول إلى نتائج حقيقية تغيرية ومُرضِية دون إنجاز تغيير في العلة الأولى: الاستبداد. وعليه فإن الاحتجاج بما دون ذلك فقط، هو تهرب من المسؤولية الذاتية أولاً، ونزع المسؤولية عن الاستبداد ثانياً، وتشتيت الجهود نحو قضايا فرعية مسبباتها الأساس قائمة في الاستبداد.

لذا، فإن عملية الإصلاح الجزئية، وإن كانت ضرورية، لكن نتاجها لن يقوم إلا إن كانت تلك العمليات هي عمليات موازية وتالية لإصلاح العلة الأولى.

النقطة الأخيرة هنا، هي أن بعض مجتمعاتنا العربية، أنجزت تلك العلة الأولى، لكن بشكل مشوّه، بمعنى أنها أطاحت باستبدادياتها الفاسدة، وأصبح المجال أمامها متاحاً للاشتغال على إصلاح واسع في كل ما طالها من تأخر/تخلف، لكنها وقعت في مأزق أشد ضراوة حين لم تنتج سلطة ضابطة لها، وبالتالي تحوّل المجتمع إلى جماعات بشرية متناحرة فيما بينها، وهي نتيجة حتمية لغياب السلطة، وبالتالي فقدت إمكانية إجراء إصلاحاتها الجزئية –التي يشكل مجموعها إصلاحاً كلياً-، بل وفقدت الأسس المشتركة التي يمكن البناء عليها.

وعليه بات لكل جماعة مرجعية قيمية وسلطوية مختلفة عن الأخرى، ولكل جماعة اشتغال على بناء سياسي واجتماعي وهويتي مختلف عن الآخر. نتيجة غياب الضابط للسلوك البشري، وهو السلطة، وتحديداً السلطة ذات الشرعية.

 

 د. عبد القادر نعناع