قوة عظمى، أحببتم ذلك أم لا: لِمَ يتوجب على الأمريكيين قبول دورهم العالمي؟

 



 

الكاتب: روبرت كاجان

ترجمة: د. عبد القادر نعناع

 

تتمتع جميع القوى العظمى بتصوّرٍ لذاتها، متأصّلٍ بعمق، شكّلته التجربة التاريخية والجغرافيا والثقافة والمعتقدات والأساطير. إذ يتوق العديد من الصينيين اليوم إلى استعادة عظمتهم التي حكموا فيها دون منازعٍ في ذروة حضارتهم، قبل أن ينحدروا إلى "قرن الذل". فيما يشعر الروس بالحنين إلى أيام الاتحاد السوفيتي، عندما كانوا القوة العظمى الأخرى وحكموا من بولندا إلى فلاديفوستوك.

كان هنري كيسنجر، ذات مرة، قد أشار إلى أنه يتعين على القادة الإيرانيين أن يختاروا ما إن كانوا يريدون أن يكونوا "أمّةً أو قضية"، لكن القوى العظمى والقوى التي تطمح إلى أن تكون عظمى، غالباً ما ترى في نفسها كلا الأمرين. ويشكّل تصوّرها الذاتي تعريفها للمصلحة الوطنية، وبالتالي يشكّل الأمن الحقيقي والإجراءات والموارد اللازمة لتحقيق ذلك. وغالباً ما تكون هذه التصورات الذاتية هي دافع الأمم والإمبراطوريات والدول-المدن إلى الأمام، وأحياناً إلى الخراب، وقد وقعت كثير من الأحداث في القرن الماضي، ناتجة عن قوى عظمى تجاوزت تطلعاتُها طاقاتِها.

في المقابل، فإنّ لدى الأمريكيين إشكاليّةً مضادة، حيث تتجاوز قدرتهم في مجال القوة العالمية تصوّرهم لمكانتهم ودورهم المناسِبَيْن في العالم. فعلى الرغم من أنّهم واجهوا تحديات النازية والإمبريالية اليابانية والشيوعية السوفيتية والإرهاب الإسلامي الراديكالي، إلّا أنّهم لم يعتبروا هذا النشاط العالمي أمراً طبيعياً. وحتى في عصر الإنترنت، والصواريخ بعيدة المدى، والاقتصاد العالمي المترابط، يحتفظ العديد من الأمريكيين بنفسيّة شعبٍ يعيش منفرداً في قارةٍ شاسعة، بمنأى عن الاضطرابات العالمية.

فعلياً، لم يكن الأمريكيون انعزاليين، مطلقاً. ففي أوقات الطوارئ، يمكن إقناعهم بدعم الجهود غير العادية في الأماكن البعيدة. لكنّهم يعتبرون هذه ردود فعل استثنائيةً لظروف استثنائية. فهم لا يرون أنفسهم المدافع الرئيس عن شكلٍ معين من النظام العالمي، ولم يتبنّوا أبداً هذا الدور "الذي لا غنى عنه".

نتيجةً لذلك، كان أداء الأمريكيين في كثير من الأحيان سيئاً، حيث أنتجت وجهة نظرهم القارية Continental View (بمعنى داخل القارة الأمريكية فقط)، تجاه العالم، قرناً من التذبذبات الجامحة، وعدم المبالاة، أعقبها حالات ذعرٍ وتعبئةٍ وتدخّلٍ، ثم أعقبها تراجع وانكماش.

ويشير الأمريكيون إلى تدخلاتهم العسكرية منخفضة التكلفة نسبياً، في أفغانستان والعراق، على أنها "حروب أبدية"، بينما هي أحدث مثال على عدم تسامحهم مع الأعمال الفوضوية التي لم تنتهِ بالحفاظ على السلام العام والعمل على إحباط التهديدات. وفي كلتا هاتين الحالتين، خرج الأمريكيون من الباب لحظة دخولهم، وهو ما أعاق قدرتهم على السيطرة على المواقف الصعبة.

لقد أدى هذا النهج المتكرر إلى إرباك الحلفاء والأعداء على السواء، وغالباً تضليلهم إلى درجة تحفيز الصراعات التي كان من الممكن تجنبها من خلال التطبيق الواضح والثابت للقوة والتأثير الأمريكيين، في خدمة سلمية واستقرار وليبرالية النظام العالمي. فقد كان القرن العشرون مليئاً بجثث الزعماء الأجانب والحكومات التي أساءت تقدير الولايات المتحدة، من ألمانيا (مرتين)، إلى اليابان والاتحاد السوفيتي، وصولاً إلى صربيا والعراق.

وفي حال لم يتبع القرن الحادي والعشرون نفس النمط في المنافسة مع الصين -وهو الأمر الأكثر خطورة- فسيحتاج الأمريكيون إلى التوقف عن البحث عن مخارج، وبالتالي قبول الدور الذي فرضه عليهم القدر وقوتهم. وربما بعد أربع سنوات من حكم الرئيس دونالد ترامب، أصبح الأمريكيون مستعدين لبعض الحديث الصريح.

 

رأيان للجدال:

إن تفضيل الأمريكيين لدور دولي محدود، هو نتاج تاريخهم وخبراتهم والأساطير التي يرددونها لأنفسهم، وبينما تتطلّع القوى العظمى الأخرى إلى استعادة أمجاد الماضي، كان الأمريكيون يتطلعون إلى استعادة ما يتخيلون أنه براءة وطموح محدود لأمتهم الشابة. فخلال العقود الأولى من وجود الجمهورية الجديدة، كافح الأمريكيون لمجرد البقاء على قيد الحياة كجمهورية ضعيفة في عالم من الملكيات العظمى. وأمضوا القرن التاسع عشر في حالة أنانية، وعملية استيعاب الذات، وغزو القارة، والنضال ضد العبودية. لكن بحلول أوائل القرن العشرين، أصبحت الولايات المتحدة أغنى وأقوى دولة في العالم، لكن دون التزامات أو مسؤوليات.

نشأت الولايات المتحدة تحت مظلة نظام عالمي خيّرٍ لم يكن لها دور في دعمه، وفي ذلك كتب المؤرخ البريطاني جيمس برايس James Bryce، عن الولايات المتحدة، عام 1888: "هي في مأمن من الهجوم، مأمن حتى من التهديد ... كانت تسمع من بعيد، صرخات متناحرة للأعراق والأديان الأوروبية، وبينما كانت آلهة أبيقور تستمع إلى همهمة التعساء، توسعت الأرض تحت مساكن الأمريكيين الذهبية ... وكانوا يبحرون في بحر صيفي".

لكن العالم تحول بعد ذلك، ووجد الأمريكيون أنفسهم فجأة في قلبه. فذاك النظام القديم الذي أيدته المملكة المتحدة، والذي أصبح ممكناً بفضل السلام الهش في أوروبا، كان قد انهار مع وصول قوى جديدة. حيث أدى صعود ألمانيا إلى تدمير التوازن غير المستقر في أوروبا، وأثبت الأوروبيون أنهم غير قادرين على استعادته. كما وضع الصعود المتزامن لليابان والولايات المتحدة نهاية لما يزيد عن قرن من الهيمنة البحرية البريطانية، وحلَّ نظام الجغرافيا السياسية العالمية محل نظام الهيمنة الأوروبي، وفيه تم دفع الولايات المتحدة إلى موقع جديد في تكوين القوة هذا، والمختلف تماماً عما سبقه.

وكانت الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على أن تكون قوة في المحيطين الهادي والأطلسي، ووحدها التي كانت تتمتع بجيران ضعفاء في الشمال والجنوب، وتطلّ على محيطات شاسعة إلى الشرق والغرب، ووحدها التي كان يمكن لها أن ترسل الجزء الأكبر من قواتها للقتال في مسارح بعيدة ولفترات طويلة، بينما يظل وطنها دون تهديد. وكانت الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على تمويل جهود الحرب الخاصة وجهود حلفائها أيضاً، بل وحشد القدرة الصناعية لإنتاج السفن والطائرات والدبابات وغيرها من العتاد، لتسليح نفسها، بينما تعمل أيضاً كترسانة لأي طرف آخر. وكانت هي وحدها القادرة على القيام بكل هذا دون أن تشهد إفلاساً مالياً، بل كانت عوضاً عن ذلك تصبح أكثر ثراءً وهيمنة مع كل حرب كبرى.

وقد لاحظ رجل الدولة البريطاني آرثر بلفور Arthur Balfour، أن الولايات المتحدة قد أصبحت "المحور" الذي يدور حوله بقية العالم، أو على حد تعبير الرئيس ثيودور روزفلت Theodore Roosevelt: "ميزان القوى في العالم بأسره".

لم يعرف العالم أبداً مثل هذه القوة، ولم تكن هناك لغة لوصف هذ القوة أو نظرية لتفسيرها. حيث كانت الولايات المتحدة قوة فريدة من نوعها، وأدى ظهور هذه القوة العظمى غير العادية إلى ارتباك وسوء تقدير، حيث كانت الدول التي أمضت قروناً في حساب علاقات القوة في مناطقها، بطيئة في تقدير تأثير هذا الصاعد الجديد البعيد، والذي كان بإمكانه بعد فترة طويلة من عدم المبالاة والانغلاق على الذات، أن ينقضّ على العالم فجأة ويغير ميزان القوى.

الأمريكيون أنفسهم واجهوا صعوبة في التكيف مع وضعهم الجديد، والذي تمتعوا فيه بثراء وحصانة نسبية، جعلتهم قادرين بشكل فريد، على خوض حروب كبرى، وفرض سلام في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، لكن في نفس الوقت، دفعهم ذلك للتساؤل عن ضرورة القيام بذلك، والرغبة فيه، ومدى أخلاقيته. فمع ولايات متحدة آمنة ومكتفية ذاتياً، ما الحاجة للانخراط في صراعات على بعد آلاف الكيلومترات من شواطئها؟ وما الحق الذي يخولها ذلك؟

طرح الرئيسان ثيودور روزفلت Theodore Roosevelt و وودرو ويلسون Woodrow Wilson، قضية سياسة تهدف إلى إنشاء نظام عالمي ليبرالي، والحفاظ عليه، وذلك لأول مرة خلال الحرب العالمية الأولى، حيث لم تعد المملكة المتحدة والقوى الأوروبية الأخرى قادرة على الحفاظ على النظام، كما كانوا يدّعون. وأثبتت الحرب أن الولايات المتحدة قد حملت على عاتقها إنشاء نظام عالمي ليبرالي جديد والدفاع عنه.

هذا كان الغرض من إنشاء "عصبة الأمم للسلام المنصف World League for the Peace of Righteousness"، التي اقترحها روزفلت بداية الحرب، و "عصبة الأمم League of Nations" التي دافع عنها ويلسون بعد ذلك، والتي عنت: إنشاء نظام سلمي جديد تكون القوة الأمريكية في مركزه. حيث اعتقد ويلسون أن هذا النظام هو البديل الوحيد الممكن لمنع استئناف الصراع والفوضى التي دمرت أوروبا. وحذر من أنه إن عاد الأمريكيون بدلاً من ذلك إلى "أهدافهم الإقليمية الضيقة والأنانية"، فإن السلام سينهار، وستنقسم أوروبا مرة أخرى إلى "معسكرات معادية"، وسينحدر العالم مرة أخرى إلى "سوادٍ حالك"، فيما سيتم استدراج الولايات المتحدة مرة أخرى إلى الحرب. بالنتيجة، كانت مصلحة الولايات المتحدة تتبلور في قارة أوروبية سلمية، وفي الغالب ليبرالية، مع قارة آسيوية سلمية، ومحيطات مفتوحة وآمنة يمكن للأمريكيين وبضائعهم السفر عبرها بأمان. لكن مثل هذا العالم لا يمكن بناؤه إلا استناداً على القوة الأمريكية، لذا كان للولايات المتحدة مصلحة في بناء هكذا نظام عالمي.

قوبلت مثل تلك الحجج، بمعارضة قوية، حيث أدان كثير من النقاد، وعلى رأسهم السناتور الجمهوري هنري كابوت لودج Henry Cabot Lodge، "عصبة" ويلسون، باعتبارها منظمة غير ضروري بل خيانة لرؤية المؤسسين الأمريكيين، حيث اعتقدوا أن اهتمام الولايات المتحدة بنظام عالمي يعني انتهاك المبادئ الأساسية التي جعلت الولايات المتحدة دولة استثنائية محبة للسلام في عالم من الحروب.

لكن بعد عقدين من الزمن، وبينما كان الأمريكيون يناقشون ما إن كانوا سيدخلون حرباً عالمية أخرى، سخر السناتور الجمهوري روبرت تافت Robert Taft، من فكرة أن الولايات المتحدة التي كانت آمنة تماماً من الهجوم، ومن فكرة أنه يتوجب عليها أن "تمتد حول العالم، مثل فارس ضالٍّ، يحمي الديمقراطية ومُثُل حسن النية، لتكون دون في حالة قتال ضد طواحين الهواء الفاشية". فيما جادل الرئيس فرانكلين روزفلت Franklin Roosevelt، بأنه حتى لو لم تتعرض الولايات المتحدة لتهديد مباشر من ألمانيا النازية أو اليابان الإمبراطورية، فإنّ العالم الذي تسيطر عليه تلك الديكتاتوريات القوية، سيكون "مكانًا رديئاً وخطيراً للعيش فيه". وستكون مسألة وقت فقط قبل أن تتجمّع الديكتاتوريات لشن هجوم نهائي على القلعة الديموقراطية المتبقية، كما اعتقد روزفلت، وقبل أن تأتي تلك اللحظة، فقد تصبح الولايات المتحدة "جزيرة منعزلة" من الديمقراطية في عالم من الديكتاتوريات، لتتلاشى الديمقراطية نفسها بكل بساطة.

لكن معارضي التدخل الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، كانوا قلقين من عواقب الانتصار بقدر قلقهم من تكاليف التدخل. ولم يرغبوا في أن تخضع بلادهم لمصالح الإمبراطوريات الأوروبية، لكنهم لم يريدوا أيضاً أن تحل الولايات المتحدة محل تلك الإمبراطوريات باعتبارها القوة العالمية المهيمنة. وحذر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جون كوينسي آدامز John Quincy Adams، من أن الولايات المتحدة ستفقد روحها حين تصبح "ديكتاتورية العالم".

تم اختزال هذا النقاش غير المستقر، مع الهجوم الياباني على بيرل هاربور، وبينما كان روزفلت يخوض الحرب العالمية الثانية، فإن تطلعه كان باتجاه نظام ما بعد الحرب الذي كان يأمل في إنشائه، بينما رأى معظم الأمريكيين أن الحرب لم تكن سوى دفاع عن النفس، بما يتفق تماماً مع منظورهم القاري، وأنهم عندما ينتهون منها، فسيعودون إلى منازلهم.

انتهت الحرب بسيطرة الولايات المتحدة على العالم، وعانى الأمريكيون من نوع من التناقض المعرفي، حيث قادتهم الحرب الباردة، إلى تحمل مسؤوليات عالمية لم يشهدوها من قبل، ونشروا قواتهم في مسارح بعيدة عنهم آلاف الكيلو مترات، وخاضوا حربين معاً في كوريا وفيتنام، كانت تكلفتهما 15 ضعفاً من حيث الوفيات العسكرية مقارنة بما ستكون عليه الحال في أفغانستان والعراق.

وروّج الأمريكيون لنظام عالمي للتجارة الحرة، أدى أحياناً إلى إثراء الدول الأخرى أكثر من الولايات المتحدة ذاتها، فيما تدخّلوا اقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً في كل ركن من أركان العالم. وسواء كانوا يدركون ذلك أم لا، فقد أنشأوا نظاماً عالمياً ليبرالياً، وبيئة دولية سلمية نسبياً، والتي بدورها جعلت من الممكن توسيع الرخاء العالمي، مع انتشار غير مسبوق تاريخياً للحكومات الديمقراطية.

كان هذا هو الهدف الواعي للرئيس روزفلت خلال الحرب العالمية الثانية، ولخلفائه في إدارة الرئيس ترومان Harry Truman. حيث كانوا يعتقدون أن النظام العالمي القائم على المبادئ السياسية والاقتصادية الليبرالية، هو الترياق الوحيد لفوضى ثلاثينيات القرن العشرين. ورأى وزير خارجية ترومان، دين أشسون Dean Acheson، بأنه لتحقيق هذا الغرض، لا يمكن للولايات المتحدة أن "تجلس في صالونها، حاملة بندقيتها، في حالة انتظار". بل عليها أن تكون في الخارج، أي في العالم، لتشكيله بشكل فعّال، وردع بعض القوى ودعم أخرى. وكان عليها أن تخلق "مواقف قوة"، في الأزمات الحرجة، وأن تنشر الاستقرار والازدهار والديمقراطية، لا سيما في المناطق الصناعية الأساسية في العالم، في أوروبا وآسيا. ويضيف أشسون، أنه كان على الولايات المتحدة أن تكون "القاطرة على رأس البشرية"، وأن تجذب العالم معها.

 

الانجراف الأمريكي

بعد أن أنشأ الأمريكيون هذا النظام، لم ترَ سوى قلة من الشعب الأمريكي النظام العالمي باعتباره هدفاً، وبالنسبة لمعظم الناس، فإن الجهود غير العادية نابعة من تهديد الشيوعية، وهو ما برّر إنشاء حلف الناتو وعمليات الدفاع عن اليابان وكوريا وفيتنام. حيث أصبحت مقاومة الشيوعية مصطلحاً مرادفاً للمصلحة الوطنية، إذ كان يُنظر إلى الشيوعية على أنها تهديد لأسلوب الحياة الأمريكي، وعندما امتنع الأمريكيون عن دعم اليونان وتركيا عام 1947، أخبر السناتور الجمهوري آرثر فاندنبرغ Arthur Vandenberg، مسؤولي إدارة ترومان أن عليهم أن "يخيفوا الشعب الأمريكي بالجحيم". فيما رأى أشسون في مذكراته، أنه حين كانت الشيوعية العدو الوحيد، كان لكل شيء أهمية، وكان كل عمل بمثابة عمل دفاعي.

لذلك، عندما انتهت الحرب الباردة، أصبح الفصل بين الدور الفعلي للأميركيين والتصور الذاتي للأميركيين غير مقبول. وبدون التهديد العالمي للشيوعية، تساءل الأمريكيون عن الغرض من سياستهم الخارجية، وعن الهدف من وجود نظام أمني يحيط بالكرة الأرضية، وأسطول بحري مهيمن، وتحالفات بعيدة المدى مع عشرات الدول، ونظام عالمي للتجارة الحرة.

ليبدأ التمرد الدولي على الفور، مع غزو صدام حسين للكويت عام 1990، حينها طرح الرئيس جورج بوش الأب George H. W. Bush، مسألة طرد صدام من الكويت لأسباب تتعلق بالنظام العالمي. وقال بوش في خطاب متلفز من المكتب البيضاوي، نقلاً عن الجنرال الذي كان يقود قوات المارينز الأمريكية التي تقاتل قوات صدام: "إن"العالم الذي يُسمَح فيه بسيطرة الوحشية والخروج على القانون، دون رادع، ليس العالم الذي نرغب أن نعيش فيه".

ولكن عندما انتقد الواقعيون والمحافظون رؤية بوش لـ "نظام عالمي جديد"، باعتبارها رؤية مفرطة في الطموح والمثالية، تراجعت الإدارة إلى شكل من أشكال المنطق القاري الأمريكي الضيق، الذي يفهمه الأمريكيون بشكل أفضل، وحينها تم ترويج الأمر على أنه "الوظائف والوظائف والوظائف"، وهي الطريقة التي دافع فيها وزير الخارجية جيمس بيكر James Baker، عن موضوع حرب الخليج.

وعندما تدخل الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton، مرتين في البلقان، ثم قام بتوسيع حلف الناتو، كان ذلك دفاعاً عن النظام العالمي، ومحاولة للقضاء على عمليات التطهير العرقي في أوروبا، وإثبات التزام الولايات المتحدة المستمر بما وصفه بوش "بأوروبا كاملة وحرة ..."، لكن كلينتون تعرض أيضاً لهجوم الواقعيين، بسبب ما اعتبروه انخراطاً في "العمل الاجتماعي الدولي".

ومع الرئيس بوش الابن George W. Bush، كان هدف الحرب الثانية على العراق، في المقام الأول: "الحفاظ على النظام العالمي، وتخليص الشرق الأوسط والخليج العربي، من معتدٍ يصوّر نفسه صلاح الدين الجديد". لكن هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر تسببت في خلط أهداف النظام العالمي مرة أخرى بالدفاع القاري الأمريكي، حتى بالنسبة لمناصري الحرب. وعندما ثبت خطأ المعلومات الاستخباراتية حول برامج أسلحة صدام حسين، شعر العديد من الأمريكيين أنه تم الكذب عليهم بشأن التهديد المباشر الذي شكّله العراق على الولايات المتحدة.

وصل الرئيس باراك أوباما إلى السلطة –نسبياً- بسبب خيبة الأمل الغاضبة التي لا تزال تشكل المواقف الأمريكية اليوم. ومن المفارقات التي وقعت، أنه عند تسلّم جائزة نوبل للسلام، لاحظ أوباما أن الاستعداد الأمريكي "لضمان الأمن العالمي" قد جلب الاستقرار إلى عالم ما بعد الحرب، وأن هذا كان في "المصلحة الذاتية المستنيرة" للولايات المتحدة. ومع ذلك، سرعان ما اتضح أن الأمريكيين يهتمون أكثر ببناء أمتهم. وفي النهاية، تشكلت واقعية أوباما، مثل واقعية الرئيس تافت William Howard Taft (1908-1912)، من قبول "العالم كما هو"، وليس كما يرغب دعاة النظام العالمي أن يكون.

في عام 1990، جادل سفير الولايات المتحدة الأسبق لدى الأمم المتحدة جين كيركباتريك Jeane Kirkpatrick، بأن على الولايات المتحدة أن تعود إلى مكانتها كدولة "طبيعية" ذات مصالح طبيعية، وأن تتخلى عن "الفوائد المشكوك فيها لمكانتها كقوة عظمى"، وأن تنهي "التركيز غير الطبيعي" على السياسة الخارجية، وعليها أن تنظر إلى مصالحها الوطنية التقليدية، والتي تعني حماية مواطنيها وأراضيها وثرواتها وحصولها على السلع "الضرورية".  لم يهتم هذا المنظور، بالحفاظ على توازن القوى في أوروبا أو آسيا، أو تعزيز الديمقراطية، أو تحمل مسؤولية مشاكل عالم التي لا تمس الأمريكيين بشكل مباشر. وهذا هو المنظور القاري الأمريكي، الذي لا يزال يسود حتى اليوم، وهو منظور لا ينكر أن للولايات المتحدة مصالح، لكنه يجعل منها مجرد مصالح شبيهة بمصالح كل الدول.

لكن المشكلة هي أن الولايات المتحدة لم تكن دولة طبيعية لأكثر من قرن، ولم يكن لديها مصالح عادية، فقوتها الفريدة تمنحها دوراً فريداً. فالبنغال أو البوليفيون مثلاً، لديهم أيضاً مصلحة في الاستقرار العالمي، وقد يعانون إن هيمنت ألمانيا مرة أخرى على أوروبا أو إن هيمنت اليابان مرة أخرى على آسيا. لكن لا أحد يقترح أنه من مصلحتهم الوطنية منع حدوث ذلك، لأنهم يفتقرون إلى القدرة على القيام بذلك، تماماً كما كانت الولايات المتحدة تفتقر إلى القدرة على ذلك عام 1798، عندما كانت مهدّدة –بشدة - بالهيمنة الأوروبية. ولم يصبح النظام العالمي مصدر قلق للولايات المتحدة إلا بعدما انهار النظام العالمي القديم في أوائل القرن العشرين، وأصبحت الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على إنشاء نظام جديد يمكن فيه حماية مصالحها.

لا يزال هذا الحال قائماً اليوم، أكثر من عصر كيركباتريك، حيث تظل القارية هي المنظور المهيمن في الولايات المتحدة، بل باتت اللغة التي يستخدمها الأمريكيون للحديث عن السياسة الخارجية والنماذج النظرية التي يفهمون من خلالها مفاهيم مثل المصلحة الوطنية والأمن، ولا تزال مليئة بالدعوات الأخلاقية، ولا تزال دعوات "ضبط النفس" تستذكر حكمة المؤسسين، وتعلن أن خيانة تلك الحكمة هي غطرسة ومسيانية Messianism وإمبريالية ([1]). ولا يزال العديد من الأممين -أصحاب الدعوة الدولية internationalists- يعتقدون أن ما يعتبرونه ممارسة غير مبررة للقوة الأمريكية هو أكبر عقبة أمام عالم أفضل وأكثر عدلاً، ويرون أن النتائج المختلطة للحروب في أفغانستان والعراق ليست مجرد أخطاء في الحكم والتنفيذ، بل علامات سوداء في الروح الأمريكية.

ولا يزال الأمريكيون يتوقون إلى الهروب إلى ماضٍ أكثر براءة وبساطة، لدرجة أنهم ربما لا يدركون أنهم يتوقون إلى امتلاك قوة أقل. لقد أدرك الواقعيون منذ فترة طويلة، أنه طالما أن الولايات المتحدة قوية جداً، فسيكون من الصعب تجنب ما أطلق عليه عالما السياسة روبرت تاكر Robert Tucker وديفيد هندريكسون David Hendrickson، ذات مرة: "الإغراء الإمبراطوري the imperial temptation". هذا هو أحد الأسباب التي جعلت الواقعيين يصرون دائماً على أن القوة الأمريكية في حال تراجع، أو ببساطة ليست على مستوى المهمة المناطة بها.

ردّد هذه الحجة، كل من الكاتب الأمريكي والتر ليبمان Walter Lippmann، والدبلوماسي الأمريكي جورج كينان George Kennan، أواخر أربعينيات القرن العشرين. كما ردّدها كيسنجر أواخر الستينيات، وردّدها المؤرخ بول كينيدي Paul Kennedy، في الثمانينيات. وما يزال العديد من الواقعيين يردّدونها حتى اليوم. حيث يتعامل الواقعيون مع كل حرب فاشلة، من فيتنام إلى العراق، كما لو كانت مشابهة للحملة الصقليّة، والتي كانت الحماقة الأخيرة التي أدت إلى هزيمة أثينا في الحرب ضد إسبرطة، في القرن الخامس قبل الميلاد.

لقد نشأ جيل كامل من الأمريكيين، على قناعة بأن الافتقار إلى انتصاراتٍ واضحة في أفغانستان والعراق، يثبت أن بلادهم لم تعد قادرة على تحقيق أي شيء بالقوة، وأن صعود الصين، وتراجع حصة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، وتقدم التقنيات العسكرية الجديدة، وانتشار القوة بشكل عام حول العالم، كلها إشارات أخرى على أفول النظام الأمريكي.

رغم ذلك، في حال كانت الولايات المتحدة ضعيفة كما يدعي كثيرون، حينها لن تضطر إلى ممارسة ضبط النفس؛ لأن الدولة لا تزال قادرة على اتباع استراتيجية النظام العالمي، وهو ما يجعل النقاد مطالبين بتقديم شروحات له. في المقابل، فإن التكوين الأساسي للقوة الدولية لم يتغير كما يتصور كثيرون، فالأرض ما تزال مستديرة، ولا تزال الولايات المتحدة قابعة في قارتها الشاسعة المنعزلة، تحيط بها محيطات، وقوى أضعف منها، فيما لا تزال القوى الكبرى الأخرى، تقبع في مناطق مكتظة بقوى كبرى أخرى، وعندما تتفوق قوة واحدة في تلك المناطق على الآخرين، فإن الضحايا المحتملين لا يزالون يتطلعون إلى الولايات المتحدة البعيدة للحصول على المساعدة.

فروسيا، ورغم أنها تمتلك ترسانة نووية ضخمة، إلا أنها أصبحت "فولتا العليا بصواريخ Upper Volta with rockets"، أكثر مما كانت عليه عندما تم صياغة هذا المصطلح أوائل الحرب الباردة، حين سيطر السوفييت على نصف أوروبا على الأقل ([2]).

ورغم أن الصين حلت محل اليابان، وهي أقوى من حيث الثروة والسكان، لكن قدراتها العسكرية غير مثبتة، ويبقى موقعها الاستراتيجي أقل تفضيلاً. وحينما توسعت الإمبراطورية اليابانية في ثلاثينيات القرن الماضي، لم تواجه أي منافسين إقليميين كبار، بينما كانت القوى الغربية منشغلة بالتهديد الألماني. أما اليوم، فإن آسيا مزدحمة بقوى كبرى أخرى، بما في ذلك ثلاثة جيوش هي ضمن قائمة الجيوش العشرة الكبرى في العالم: الهند واليابان وكوريا الجنوبية، وجميعهم إما حلفاء أو شركاء للولايات المتحدة. وفي حال استخدمت بكين -إيماناً منها بضعف واشنطن- قوتها المتنامية، لمحاولة تغيير الوضع الاستراتيجي في شرق آسيا، فقد يتعين عليها التعامل ليس مع الولايات المتحدة فحسب، بل مع تحالف عالمي من الدول الصناعية المتقدمة، كما سبق وأن اكتشف الاتحاد السوفييتي ذلك.

كانت سنوات ترامب بمثابة اختبار ضغط للنظام العالمي الأمريكي، وقد نجح هذا الاختبار. وشهدت تلك الفترة مواجهة كابوس قوة عظمى مارقة تمزق التجارة والاتفاقيات الأخرى، وهو ما دفع حلفاء الولايات المتحدة لاسترضائها وتملقها، وقدموا لها قرابيناً لتهدئة هذا البركان الغاضب، وظلوا في حالة انتظار قيام ظروف أفضل، في حين تحرك أعداؤها بحذر. فعندما أمر ترامب بقتل قاسم سليماني، كان من المعقول توقع ردٍّ إيراني، وقد يقع ذلك، ولكن لم يقع في عهد رئاسة ترامب. كما عانى الصينيون من حرب جمركية طويلة، أضرت بهم أكثر مما أضرت بالولايات المتحدة، لكنهم حاولوا تجنب الانهيار الكامل للعلاقات الاقتصادية التي يعتمدون عليها مع الولايات المتحدة.

وبينما كان أوباما قلقاً من يؤدي توفير أسلحة هجومية لأوكرانيا إلى حرب مع روسيا، فإن إدارة ترامب مضت في تسليم الأسلحة، وأذعنت موسكو بصعوبة بالغة. ورغم أن العديد من سياسات ترامب كانت غير منتظمة وسيئة التصميم، لكنها أظهرت مقدار القوة الزائدة غير المستخدمة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، في حال اختار الرئيس استخدامها. ففي عهد أوباما، أعاد المسؤولون الأمريكيون حساباتهم 50 مرة قبل تخفيض التصعيد من عدمه، نتيجة قلقهم من أن يؤدي التصعيد الأمريكي إلى تصعيد مضاد من القوى الأخرى. أما في عهد ترامب، كانت الدول الأخرى هي من تعاني من قلق خشية تصعيد الولايات المتحدة المواجهة معها.

 

قوة كبرى، ومسؤوليات كبرى:

مع قليل من الأسى، وصف المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي Arnold Toynbee، أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، الولايات المتحدة بأنها "تعلب بشكل كسول، بجزء بسيط من قوتها التي لا تحصى". في ذلك الوقت، كان الإنفاق الدفاعي للولايات المتحدة يتراوح بين 2-3٪ من الناتج المحلي الإجمالي. أما اليوم، فهو يزيد قليلاً عن ثلاثة بالمائة.

في خمسينيات القرن الماضي، وخلال إدارة أيزنهاور -والتي غالباً ما يُنظر إليها على أنها فترة ضبط نفس مثيرة للإعجاب في السياسة الخارجية الأمريكية- نشرت الولايات المتحدة ما يقرب من مليون جندي خارج أراضيها، وذلك من إجمالي عدد السكان الأمريكيين البالغ 170 مليون. أما اليوم، وفي عصر يقال فيه إن الولايات المتحدة مفرطة في التوسع بشكل خطير، هناك ما يقرب من 200 ألف جندي أمريكي منتشرين في الخارج، من أصل 330 مليون نسمة.

وبغض النظر عما إن كان هذا يشكل "لعباً كسولًا بجزء بسيط" من القوة الأمريكية، فمن المهم أن ندرك أن الولايات المتحدة الآن هي في وضع سلام. ولو تحول الأمريكيون إلى قاعدة الحرب، أو حتى إلى نمط الحرب الباردة، رداً على بعض الإجراءات الصينية -هجوم صيني على تايوان على سبيل المثال-، فإن الولايات المتحدة ستبدو كحيوان مختلف تماماً.

في ذروة أواخر الحرب الباردة، أي في عهد الرئيس رونالد ريغان Ronald Reagan، أنفقت الولايات المتحدة ستة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. وأنتجت صناعة الأسلحة، أسلحة بكميات ونوعية لم يستطع السوفييت مواكبتها، ويمكن للصينيين أن يجدوا أنفسهم اليوم في مأزق مماثل. فقد "يندفعون في البرية خلال الأشهر الستة الأولى أو العام"، كما توقع الأدميرال إيسوروكو ياماموتو Isoroku Yamamoto، قائد الأسطول الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، بشأن قواته. لكن على المدى الطويل، كما حذر ياماموتو من استفزاز أمريكا وحلفائها حينها، فقد يواجه الصينيون نفس مصير خصوم الولايات المتحدة الآخرين.

السؤال المطروح الآن، ليس فيما إن كانت الولايات المتحدة لا تزال قادرة على الانتصار في مواجهة عالمية، أكانت ساخنة أم باردة، ومع الصين أو أية قوة تعديلية أخرى revisionist power. فالسؤال الحقيقي هو ما إن كان من الممكن تجنب أسوأ أنواع الأعمال العدائية، وما إن كان يمكن تشجيع الصين والقوى الأخرى على السعي لتحقيق أهدافها سلمياً، وحصر المنافسة العالمية في المجالات الاقتصادية والسياسية، وبالتالي تجنيب نفسها والعالم أهوال حرب كبرى تالية، أو حتى مواجهات مخيفة لحرب باردة أخرى.

لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجنب مثل هذه الأزمات، عبر الاستمرار في التمسك بوجهة نظر القرن التاسع عشر، حول مصلحتها الوطنية، فالقيام بذلك من شأنه أن ينتج ما أنتجته في الماضي: فترات من اللامبالاة والتقشف، يتبعها ذعر وخوف وتعبئة مفاجئة.

هنا نلحظ أن الأمريكيين تحت ضغط مسألتين معاً، فمن ناحية أولى، تحتل الصين في الذهنية الأمريكية الحالية، المكانة التي احتلتها ألمانيا والاتحاد السوفيتي ذات يوم: خصم أيديولوجي لديه القدرة على ضرب المجتمع الأمريكي بشكل مباشر، ولديه قوة وطموحات تهدّد موقف الولايات المتحدة في منطقة رئيسة، وربما في أي مكان آخر أيضاً. ومن ناحية أخرى، يعتقد العديد من الأمريكيين أن الولايات المتحدة في حالة تدهور وأن الصين ستهيمن حتماً على آسيا، وهنا تتماثل التصورات الذاتية للأمريكيين والصينيين تماماً. حيث يعتقد الصينيون أن دور الولايات المتحدة في منطقتهم على مدار الـ 75 عاماً الماضية، كان دوراً غير طبيعي وبالتالي فهو عابر، وكذلك يعتقده الأمريكيون. كما يعتقد الصينيون أن الولايات المتحدة في حالة انحدار، وكذلك يعتقد كثير من الأمريكيين. ويكمن الخطر في أنه مع تكثيف بكين لجهودها لتحقيق ما يتطلبه "الحلم الصيني"، سيصاب الأمريكيون بالذعر، وبالتالي، ونتيجة لذلك، سيقومون بإجراء حسابات خاطئة.

وحيث أنّ الصينيين هم طلاب مُجدّون في دراسة التاريخ، ربما لن يرتكبوا الأخطاء التي ارتكبها الآخرون في إساءة تقدير قوة الولايات المتحدة. ويبقى أن نرى ما إن كان الأمريكيون قد تعلموا دروس تاريخهم، لكن سيكون من الصعب تغيير نمط التذبذب الممتد لقرن، وبشكل خاص، عندما يرى خبراء السياسة الخارجية من جميع الأطياف أن دعم النظام العالمي الليبرالي أمر مستحيل وغير أخلاقي.

من بين المشاكل الأخرى، تعاني وصفات خبراء السياسة الخارجية، من تفاؤل غير مبرر بشأن البدائل المحتملة للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة. ويبدو أن الواقعيين والأممين الليبراليين والقوميين المحافظين والتقدميين، جميعهم يتصور أنه بدون أن تقوم واشنطن بالدور الذي قامت به خلال الـ 75 عامًا الماضية، فإن العالم سيكون على ما يرام، وستتم حماية مصالح الولايات المتحدة بشكل جيد. لكن، لا التاريخ الحديث، ولا الظروف الحالية، تبرر مثل هذه المثالية. فالبديل عن النظام العالمي الأمريكي، ليس نظاماً عالمياً سويدياً، ولن يكون عالم قانون ومؤسسات دولية، أو انتصار التنوير، أو نهاية التاريخ، بل سيكون عالماً من فراغ السلطة، والفوضى، والصراع، وسوء التقدير، وبالنتيجة سيكون مكاناً رديئاً حقاً.

إنّ الحقيقة الفوضوية، هي أنه في العالم الحقيقي، يبقى الأمل الوحيد للحفاظ على الليبرالية، داخل الولايات المتحدة وخارجها، هو الحفاظ على نظام عالمي يفضي إلى الليبرالية، والقوة الوحيدة القادرة على دعم مثل هذا النظام هي الولايات المتحدة. هذا ليس تعبيرا عن الغطرسة، بل واقع متجذر في الظروف الدولية، وهو بالتأكيد نعمة مختلطة. بمعنى أنه مع السعي للحفاظ على هكذا نظام، استخدمت الولايات المتحدة قوتها –وستستخدمها- أحيانًا بطريقة غير حكيمة وغير فعّالة، مع تكاليف غير متوقعة وعواقب غامضة أخلاقياً، لكن هذا ما يعنيه استخدام القوة. عموماً، سعى الأمريكيون بطبيعة الحال للتهرب من هذا العبء، ولتجريد أنفسهم من المسؤولية، والاختباء أحياناً وراء الدعوة الأممية الحالمة، وأحياناً وراء استسلام حازم لقبول العالم "كما هو"، ودائماً مع وجهة النظر التي ترى أنه في ظل غياب خطر واضح وقائم، يمكن للأمريكيين التراجع إلى قلعتهم المتخيلة.

لقد حان الوقت لنقول للأمريكيين، إنه لا مفر من المسؤولية العالمية، وإن عليهم التفكير أبعد من حماية وطنهم، فهم بحاجة إلى فهم أن الغرض من حلف الناتو والتحالفات الأخرى هو الدفاع، ليس ضد تهديدات مباشرة لمصالح الولايات المتحدة، ولكن ضد انهيار النظام الذي يخدم تلك المصالح على أفضل وجه. ويجب إخبارهم بكل صدق، أن مهمة الحفاظ على النظام العالمي عملية لا تنتهي، ومحفوفة بتكاليف باهظة، ولكنها تبقى أفضل من البدائل الأخرى.

لقد أدى الفشل في الانسجام مع الشعب الأمريكي بالبلاد إلى مأزقها الحالي، مع وجود جمهور مرتبك وغاضب، ومقتنع بأن قادته يخونون المصالح الأمريكية من أجل أهدافهم العولمية الشائنة، وهنا فإن الترياق المضاد لذلك، ليس عبر إخافتهم من الصين والتهديدات الأخرى، ولكن، مرة أخرى، عبر محاولة شرح أهمية النظام العالمي الذي أنشأه الأمريكيون، وهذه هي مهمة جو بايدن وإدارته الجديدة.

 

ROBERT KAGAN is Stephen and Barbara Friedman Senior Fellow at the Brookings Institution and the author of The Jungle Grows Back: America and Our Imperiled World.

 

لمراجعة النص الأصلي، انظر:

ROBERT KAGAN, "A Superpower, Like It or Not: Why Americans Must Accept Their Global Role", Foreign Affairs, March/April 2021, pp. 28-38.

 



([1]) المسيانية Messianism:

هي الإيمان بقدوم المسيح ليكون مخلصاً أو محرراً لجماعة من الناس، ورغم أنه معتقد مسيحي، لكن الأديان الأخرى لديها مفاهيم متعلقة بالمسيانية، حيث تشمل الأديان التي تحمل مفهوم المسيح: اليهودية (المشياخ)، والزرادشتية (ساوشيان)، والبوذية (مايتريا)، والهندوسية (كالكي)، والطاوية (لي هونغ)، والبابوية، والإسلام. (ويكبيديا)

([2]) جمهورية فولتا العليا، وهي الآن دولة بوركينا فاسو، كانت دولة غير ساحلية في غرب إفريقيا، تأسست في 11 ديسمبر 1958 كمستعمرة ذاتية الحكم، داخل المجتمع الفرنسي. وقبل الحصول على الحكم الذاتي كانت فولتا العليا الفرنسية، وجزءاً من الاتحاد الفرنسي.

أما مصطلح " Upper Volta with rockets"، فقد ظهر أثناء الحرب الباردة، للسخرية من عجز الإمبراطورية السوفييتية الشاسعة عن إنتاج أي شيء آخر غير الأسلحة.