مقالات في المجتمع المتوحّش: (1) حول مصطلح التوحّش

 



يُعتبر كتاب لاري دايموند Larry Diamond: "روح الديموقراطية: الكفاح من أجل بناء مجتمعاتٍ حرةٍ The Struggle To Build Free Society Throughout The World"، دارسةً معاصرةً بالغة الأهمية في الديموقراطية، وهي دراسةٌ واسعة، تتنوّع فصولها وحالاتها الدراسية.

ما يهمنا هنا، هو ما أورده دايموند في فصلها الثالث عشر، عن المجتمع المدني، وما يرتبط به من مسألة الثقة المتبادلة بين أفراده، والتي تُشكِّل معنى المصلحة الخاصة المستنيرة، وهي ما يقود إلى ثقافةٍ مدنيةٍ موثوقٍ بها، لكنّه يشترط وجود مؤسّساتٍ سياسيةٍ مساندةٍ تصنع القيم والأخلاقيّات العامّة (أي بمعنى آخر: تضبط سلوك المجتمع)، مؤكداً على أنّ التعاون بين أفراد هذا المجتمع مضبوطٌ في أحد حدوده بخوفهم من العقاب. ونورد هنا بعضاً ممّا كتبه:

"إنّ المواطنين في المجتمع المدني غير مطالبين أن يكونوا محبين للغير، مع ذلك، في المجتمع المدني يتّبع المواطنون ما دعاه توكفيل "المصلحة الخاصة المفهومة على نحوٍ لائق"، أي إنّ المصلحة الخاصّة تتحدّد في سياق الحاجات العامّة الواسعة، المصلحة الخاصة ذات النظرة "المستنيرة" وليست ذات النظرة "القصيرة"، المصلحة الخاصة التي تحيا من أجل تحقيق مصالح الغير. فالناس "يحيون من أجل تحقيق مصالح الغير"، لأنهم جزئياً واثقون من أنّ المواطنين الآخرين سيتصرفون بالطريقة ذاتها.

وهذه الثقة متجذّرةٌ فقط في ثقافةٍ مدنيّةٍ موثوقٍ بها، بل المواطنون يحملون هذه الثقة بالنظر إلى وجود مؤسّسات حوكمةٍ قويةٍ وفعّالةٍ تحثّ على السلوك المدني وتكافئه. لا يمكن دعم ثقافة الثقة، والتعاون والتبادلية والقيد والتسامح والتفاهم على صعيد الأمة في غياب مؤسّساتٍ سياسيةٍ مساندة، فيها يحترم الناس القانون، ويؤدون ضرائبهم، ويلتزمون بقواعدها الأخلاقية، ويستجيبون لنداء واجب هيئة المحلفين، وإلا فإنّ خدمتهم الصالح العام لا تكون فقط بدافع الروح الشعبية التي تحركهم، وإنما أيضاً بدافع كونهم يعتقدون أنّ الآخرين تحركهم أيضاً هذه الروح الشعبية، وكونهم يدركون العقاب الذي سينالهم إذا لم يكونوا كذلك. إن كان من غير المشجّع التفكير في احتمال أن يكون الناس أقل تعاوناً فيما بينهم من دون المؤسّسات المفروضة، فإن هناك نتيجة طبيعية: فكما أنّ الثقافة المدنية تتطلّب دعماً مؤسّسياً ورعايةً خاصةً كي تحيا، تتقوى أيضاً ثقافة الفساد المفترسة في غياب مؤسّساتٍ فعّالة، ويمكن أن تتغيّر في حضورها".

 

في المقابل، يرسم دايموند شكلاً آخر من أشكال المجتمع، وهو المجتمع المفترس، الذي يراه نقيضاً للمجتمع المدني، والذي يرى أنّه ليس مجتمعاً بمعنى الكلمة، بقدر ما هو اجتماعٌ بشري، يمتاز بسلوكه الساخر والانتهازي غير المحترم للقانون. ويربط ظهور هذا المجتمع بالبيئات الاستبدادية أو الفاسدة، ذات العلاقات الهرمية، ويحدّد أبرز سماته فيما يلي:

"يعدّ المجتمع المفترس نقيض المجتمع المدني. أولاً، لا يوجد مجتمعٌ حقيقيٌّ بمعنى الكلمة، ولا أيّ التزامٍ مشتركٍ بنظرةٍ مشتركةٍ لأجل الصالح العام، ولا أي احترامٍ للقانون، إنّ السلوك ساخرٌ وانتهازي. يبحث أولئك الذين يحكمون قبضتهم على السلطة السياسية عن احتكارها واحتكار المال المتدفّق منها. ومن ثمّ فإن جرت انتخاباتٌ تنافسية، فسيصبح ذلك صراعاً دموياً دون طائل، حيث يبقى كلّ شيءٍ في خطر، ولا أحد يملك القدرة على الخسارة والاستسلام. يتحالف الناس فيما بينهم بحثاً عن السلطة والامتيازات، ولكن ليس باعتبارهم متساويين. إنّ العلاقات بالأحرى هرمية بشكلٍ حادّ. ليس الناس العاديون مواطنين حقيقيين، بل هم بالأحرى زبائن للأرباب الأقوياء الذي يعملون بدورهم لصالح أرباب آخرين أكثر قوة وبأساً. إنّ التفاوت الصارخ في السلطة، والمكانة الاجتماعية يتراكم ضمن سلسلة عمودية من التبعية والاستغلال المُؤَمَّنَيْن عبر المحسوبية والإكراه. في مجتمعٍ مفترس، يتغذى المسؤولون على الدولة، والفريسة القوية على الضعيفة. ويستخلص الأغنياء الغنى من الفقراء، ويحرمونهم من الصالح العام. "ويعدّ الفساد هو القاعدة بشكلٍ واسع"، وتُعبّأ المشاركة السياسية من الأعلى، والالتزام المدنيّ ضعيف، والتفاهم نادرٌ و"يشعر كلّ الناس تقريباً بالضعف والهوان والاستغلال والتعاسة".

تعجز الجماهير الشعبيّة في أسفل الترتيب الهرمي الاجتماعي المفترس، عن التعاون فيما بينها، لأنّها وقعت في شرك شبكاتٍ تراتبيةٍ متشظّية، أفرزت حالة الارتياب بينها. وغالباً ما تغذّي النعراتُ الإثنيةُ واللغويةُ التشظيَّ الاجتماعيَّ وتقويه، إلى جانب أشكالاً أخرى من الانقسامات في الهُوية التي تمنع المقهور من التعاون، وتسمح لمن يحظى بالامتيازات بحشد الدعم السياسي. وغالباً أيضاً ما تسعى النخبة المفترسة إلى إذكاء التوتر العرقي أو القومي لصدّ الإحباط الشعبي واستيائه بعيداً عن سلوكهم المستغِل. ولكنّ، التوترات العرقية وحالات الاستياء القومي، لها أصلٌ مستقل، من أجل ذلك، غالباً ما تبلغ النخبة هذا النجاح الباهر عند إذكائها. فمن نيجريا إلى الكونغو، ومن كولومبيا إلى كوسوفو، ومن الصرب إلى السودان، يمتزج العنف العرقي وإراقة الدم القومي، والحرب الأهلية، بشكلٍ كبير، بفساد النخب السخيف".

لكن كلا المجتمعين لدى دايموند، هما مجتمعان قائمان مع قيام الدولة، أيّ أنّهما لا يوجدان خارجها، وإن كان المجتمع المدني هو الحالة السويّة التي ينبغي على كافة القوى السياسية والاجتماعية بلورتها والدفع نحوها وتعزيز مقوماتها، فإنّ المجتمع المفترس هو انحراف المجتمع المدني المترافق بانحراف السلطة الضابطة له.

هذا ما دفعنا للتساؤل عن شكل المجتمع في حال غياب السلطة غياباً يُسقِط الدولة معه، فالدولة عند جميع دارسي السياسية هي: سلطةٌ وشعبٌ وأرض –ويضيف البعض: شرط الاعتراف الدولي، لكننا سندعه جانباً لأهداف ضبطية–.

وبالتالي فإنّ غياب الدولة أو انتهاءها، يعني لنا في هذه الدراسة، عدّة أشكال، هي:

-       زوال السلطة السياسية الضابطة للدولة، أو زوال سيادتها على جزءٍ مهمٍّ من الدولة، وعدم قيام سلطة أخرى، وهي مقصدنا البحثي.

-       زوال الشعب المُشكِّل للدولة، سواء بتصفيته جميعاً، وهي حالة نادرة لا يمكن الركون إليها، أو بجعل غالبيته العظمى شتاتاً غير خاضعٍ لسلطة الدولة التي ينتمي إليها، وهي أيضاً مقصد الدراسة.

-       تبقى الحالة الثالثة، متمثّلةً بزوال الجغرافيا، مع بقاء السلطة والمجتمع، وهي حالةٌ شاذةٌ وغربية، ويصعب العثور على حالاتٍ دراسيةٍ لها، لكنّ أقرب ما يمكن أن نتداركه هنا، هو حالة دولة الكويت في الفترة 1990-1991، عندما وقعت الدولة تحت الاحتلال العراقي، مع تحوّل السلطة والمجتمع إلى شتاتٍ خارجيٍ مؤقّت، وهذه الحالة يمكن أن نعتبرها أيضاً حالة دراسية مقصودة هنا.

هذه الحالات الثلاث، تُشكّل مفهومنا لزوال الدولة، هنا لا يمكن أن نتحدث عن مجتمعٍ مدنيٍّ بالمعنى العلمي للمصطلح، ولا عن المجتمع المفترس الذي يطرحه دايموند في "روح الديموقراطية". لذا وجدنا الحاجة إلى بناء مصطلح آخر، يتمثل في: المجتمع المتوحش Wild Society، والذي نقصد به الاجتماع البشري السابق للدولة، وهو اجتماع يشبه حالة البرية Wild، التي كان يعيشها الفرد/جماعة من الأفراد، ساعين إلى تحقيق مصالحهم الفردية بالتعاون المحدود فيما بينهم، مع انعدام الثقة وغياب الاستقرار وحالة القلق الدائمة، دون وجود تنظيمٍ سياسيٍ صانعٍ للقيم والأخلاقيات العامة، ذي سلطةٍ ضبطيةٍ وتوجيهيةٍ وعقابية.

ما يزال موضوع هذه الدراسة قيد التشكّل، وهو بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الضبط والتعريف والتأطير، ثم القياس. لذا نسعى من خلال مقالاتٍ متفرّقة، أن نشكّل هذا المصطلح، في محاولةٍ لدراسة الحالات التي تشهد زوال الدولة بمفهومها العلمي وليس السياسي، وخصوصاً أن حالات الدراسة هي حالات لا يزال الاعتراف الدولي بها كدولة قائماً، وهي حالاتٌ واضحةٌ في العالم العربي منذ عام 2011، مثل ما حصل في سورية واليمن وليبيا، عدا عن أنّنا أمام حالاتٍ دراسيةٍ إشكاليةٍ فيما يتعلّق بارتباطها بمفهومنا للتوحّش مع مفهوم دايموند للافتراس، تتمثّل في العراق ولبنان والسودان.

ربّما لا نقدم ضبطاً كاملاً في المقال القادم، بل ننوي تقديم جملة أفكارٍ أساسيةٍ متتالية (دراسة جزئية لحالة منفردة داخل مجتمع متوحش)، تقودنا في نهاية المطاف إلى ضبط مصطلح التوحش.

 

د. عبد القادر نعناع