المجتمع المتوحش: (2) الاستناد إلى الدولة الفاشلة Failed State، والطروحات الهوبزية Hobessism



 

يأتي اشتقاق مصطلح التوحش Wild، بناء على نظرية توماس هوبز Thomas Hobbes، حول الطبيعة البشرية التي يرى أنها في حالة عدائية تجاه ذاتها، أو ما اعتبره هوبز: حرب الكل ضد الكل a war as if every man against every man".

وتعتبر طروحات هوبز، إحدى الركائز الفكرية الرئيسة التي سيستند إليها منظرو العلاقات الدولية في إنتاج نظرية الواقعية السياسية في القرن العشرين. وما تزال تلك الأفكار قادرة على وصف قضايا محددة، نعتقد أنها مناسبة لموضوع البحث، وهي غياب السلطة العليا الضابطة.

طبعاً، الواقعيون كانوا قد ناقشوا غياب السلطة العليا على المستوى الدولي، وهو ما جعل الدول تعتمد على الميول البشرية في "حالة الطبيعة natural state"، ونفضل هنا تسميتها بحالة البرية wild state، فهي أكثر تعبيراً من مصطلح حالة الطبيعة.

ويتقاطع مفهومها لهذا المجتمع، مع طروحات هوبز في كثير منها، حين وجد أن الأفراد يتساوون –في حالة البرية- في سعيهم للقوة، ويتساوون في فرص سعيهم للحصول على رغباتهم على حساب الآخرين. لذا، فإن مفاهيم من مثيل: الحق والباطل والعدل والظلم، لا يغدو لها مكان، لأنها تتطلب وجود سلطة وقوة تسود في المجتمع، وفي هذه الحال، فإن الأفراد مجبرون بقوة حالة الطبيعة/البرية، وبالخوف ومسبباته، وبالمعضلة الأمنية التي يواجهونها، بأن يتصرفوا بأنانية، وتغدو القوة والاحتيال، فضيلتين رئيستين لسلوكهم، وعليه، فإن حالة الطبيعة –البرية وفق تفضيلاتنا- هي بالضرورة حالة الحرب أو العداء بين أفراد المجتمع.

ونتفق مع طرح هوبز بأن هذا الوضع المضطرب، لا يمكن إزالته أو إلغاؤه إلا من خلال سلطة تمتلك قوة الإخضاع على كل قوة سيادة أخرى في المجتمع.

في حال استعرنا الشروحات الهوبزية، سنجد أن المجتمعات المتوحشة في حالة البرية، تفرز سيادات نووية متعددة (صغيرة وضيقة الانتشار)، وهي سيادات إما عصبوية هويتية في الغالب، وإما أن تتحول إلى سيادات نفعية/براغماتية في مرحلة انهيار العصبويات التقليدية "الهويتية".

بالنتيجة، فإن فكرة المجتمع المتوحش، ترتكز على فكرة رئيسة هي غياب الضابط لتوحش المجتمع، أي غياب السلطة العليا التي تسود على كل السلطات الفرعية، وتضبطها، وتمتلك الحق الشرعي والحصري في استخدام عنف قانوني/شرعي لضبط التوحش، وبفقدانها يتحول المجتمع إلى الحالة البدائية السابقة للدولة، أو حالة التوحش البرية Wild State.

وبالعودة إلى أشكال انهيار الدولة، في المقالة السابقة، فإن شكلي الانهيار المرتبطين بالمجتمع والجغرافيا، يبقيان أقل تأثيراً من شكل انهيار السلطة الضابطة. لذا يمكن استخدام مؤشر استقرار/هشاشة الدولة، باعتباره مؤشراً ارتكازياً أولياً لتحديد الدول ذات المجتمعات المتوحشة، وهي الدول الفاشلة، التي تفقد فيها السلطة سيادتها على أجزاء من الدولة، أو قدرتها الضبطية للجماعات والجغرافيا (كلها أو بعضها)، في حين تكون الدول الهشة عرضة لأن تشهد بداية تحول نحو التوحش، لكن يمكن أن نعتبر مجتمع الدول الهشة مجتمعاً شبيهاً بالمجتمع المفترس الذي طرحه لاري دايموند.

يصعُب الفصل تطبيقياً بين تصنِيفَيّ الدول: الهشّة والفاشلة، لما بينهما من تداخلٍ في دور السلطة ووظيفتها وسيادتها، وأداء المؤسّسات الحكومية. وعموماً، يمكن القول إنّ الدول تصبح هشّةً عندما تكون في طريقها نحو الفشل، ويمكن اعتبار كلتا الدولتين، جاراً سيئاً. ويمكن أيضاً أن نستفيد هنا من التعريفات السائدة حول ذلك:

فوفقاً لـ G. Lindstrom فإنّ الدولة الهشّة تميل في أغلب الأحيان إلى الدخول في صراعاتٍ مع غيرها، ولا تمتلك من القدرة على التحكم في أراضيها، إلا الشيء اليسير، وتُقيم مؤسّساتٍ إقصائيةً تكثُر فيها مواطن العيب والخلل، ولا يتوفّر فيها إلاّ بنى تحتية هزيلة تقلِّل كثيراً من السلع/الخدمات الاجتماعية الأساسية التي تقدّمها، وهي أَعْجَز من أن تمنع جماعاتٍ معينةً من أعمال العنف لنفسها. وفي أشدّ حالاتها سوءاً وتدهوراً، تؤول هذه الدول إلى التفكّك، ما يفضي إلى انهيارٍ تامٍّ للنظام العام والعلاقات الاجتماعية.

أي أنّ Lindstrom يجد أنّ تراجع أداء مؤسّسات الدولة وفقدان السلطة لقسمٍ مهم من سيادتها وشرعيها، أو انحسارها، أو تآكلها، يقود أولاً إلى الهشاشة ومنه إلى الفشل. (وهنا المقصود فشل الدول ككل، وليس فشل الحكومة وحدها، التي يمكن إسقاطها واستبدال حكومة جديدة بها).

وكانت مؤسسة Fund for Peace قد عرّفت الدولة الفاشلة، بأنّها تلك الدولة التي فقدت السيطرة على أراضيها، وفقدت احتكار الاستخدام المشروع للقوة/العنف فيها. مع تآكل السلطة الشرعية لاتخاذ قراراتٍ جماعية، وعدم القدرة على تقديم الخدمات العامة، وعدم القدرة على التفاعل مع الدول الأخرى كعضوٍ كامل العضوية في المجتمع الدولي.

حيث تشمل الخصائص المشتركة للدولة الفاشلة: حكومةٌ مركزيةٌ ضعيفةٌ للغاية أو غير فعّالة لدرجة أنّها غير قادرةٍ على زيادة الضرائب أو أشكال الدعم الأخرى، ولديها القليل من السيطرة العملية على جزءٍ كبيرٍ من أراضيها، وبالتالي هناك عدم توفيرٍ للخدمات العامة.

هذه هو الأساس الأول، الذي قد يساعدنا في الشروحات القادمة، على بلورة مفهوم المصطلح المتوحش.

 

د. عبد القادر نعناع