المشهد السوري في البيئة العربية




هناك رأي سائد بين عديد من الحكومات العربية، إن لم نقل مجملها، بأن نظام الأسد انتصر على خصومه، وأن الوقت قد آن لإنهاء عقد من الفوضى الذي ساد العالم العربي.

المشكل هو، هو قصور وجهة النظر هذه على لحظة زمنية بمحددات ضيقة، تتعمد تجاهل كامل المشهد السوري، والعربي عموماً، وتبني سياساتها على مغالطات واضحة للغاية، أبرزها:

-       أن السياسات الخارجية العربية، في مجملها، هي سياسات "رد فعل"، لاحقة للحدث، وليست سياسات استراتيجية تبني أدواتها ما قبل الحدث، وتقود الحدث مباشرة. هذه السياسات تقع دائماً تحت توجيه الآخرين، ونقصد بهم القوى المتدخلة في الشأن العربي، الإقليمية والدولية.

-       إسقاط البعد والمسار التاريخي للحدث، والإصرار على القراءة الآنية، ما يقودنا إلى مزيد من التدهور، جميعنا يشهده على مستوى السياسات الخارجية العربية طيلة العقود الماضية.

-       أما المغالطة الثالثة، فتقوم على إسقاط تطلعات الشعوب وقدرتها على الحراك، من أية حسابات، والإصرار على الاشتغال ما بين الحكومي فقط.

-       والمغالطة الرابعة والدائمة في السياسات العربية، عدم استيعابها لحتمية التغيير في المشهد الكلي، والإصرار على النكوص السلطوي، والعودة إلى حالة استاتيكية في المشهد العربي (التخلف الحضاري).

نبني على هذه المغالطات، لنقول إن السياسات العربية غير مدركة أن المشهد العربي الإجمالي (الكلي)، لو استخدمنا مقاييس كمية ونوعية، لوجدنا أنه في حالة تدهور مستمرة، ولو استخدمنا المتغيرات التي قامت في العقد الماضي (عقد الفوضى)، لوجدنا أن العالم العربي مؤهل لانفجارات لاحقة، ربما تكون بحدة الانفجارات السابقة وربما أشد حدة، وخصوصاً في شرق المتوسط، أي العراق وسورية ولبنان.

وتظل سورية، الدولة الأكثر سوءاً على الإطلاق في المشهد العربي والعالمي، فهي قد تجاوزت مرحلة الدولة الفاشلة التي تعيشها ليبيا والصومال واليمن وأفغانستان، فتلك الدول رغم فشلها، إلا أنها تمتلك بعض المقومات المحدودة التي قد تساعدها على استعادة الدولة.

فيما سورية، على ما أعتقد، هي دولة منهار، وهي أقرب إلى زوال الدولة منها إلى استعادتها، بغض النظر عن المؤشرات المشوّهة التي يتعمد البعض إظهارها، ومنها مؤشر "انتصار النظام".

فعلياً، النظام السوري، لم يعد قادراً على الاستمرار حتى لأيام، إلا في ظل إسناد دولي متعدد، حتى الإسناد المنفرد لم يعد كافياً لإبقاء النظام والدولة ذاتها. فالدولة فقدت مقومات الدولة، ومؤسساتها متداعية يتم إدارتها عبر قوى متعددة داخل الدولة، ولم يعد للدولة من موارد هذا من جهة. ثم إن غالبية السكان الذين تم تهجيرهم، لن يرغبوا بالعودة الطوعية.

ثم إن الحديث عن انتصار الأسد، لو افترضنا صحته –مع رفضي لذلك-، هو افتراض عاجز عن رؤية المشهد الجيوسياسي في سورية، فسورية عبارة عن ثلاثة دول، في كل منها كانتونات فرعية، واحتلالات خارجية، ما يربطها هو فقط، إصرار دولي على الاحتفاظ بالتسمية والشكل الدولتي الحالي، إلى حين.

أما بشأن الاحتلالات الخارجية، فالغريب أن العرب أنفسهم، باتوا يطالبون بتوطين هذه الاحتلالات، لأنهم عاجزون عن مواجهتها أولاً، وخصوصاً الاحتلال الروسي، عدا عن مستوى التشبيك المصلحي الضخم مع روسيا. لذا هم في مبادراتهم، إنما يقدمون سورية كتنازل أخير للروسي، مقابل تهدئة المشهد العربي السلطوي –كما يعتقدون- وإحداث مزيد من التشبيك مع الروسي.

أما الإيراني، فهذه طامة التفكير العربي، حين يعتقدون أن الإيراني هو مجرد احتلال شبيه بالروسي، وعدم قدرتهم على ملاحظة عمق الوجود الإيراني، السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والديني والتاريخي، وأنه أصبح كتلة سرطانية كتلك الموجودة في العراق ولبنان، ولا يمكن القضاء عليها إلا بالقضاء على إيران ذاتها، وحتى هذه، لن تلغي التغيير الديموغرافي الكبير الذي أصبح واقعاً لا يمكن الرجوع عنه، كما تثبت لنا تجارب التاريخ.

ثم إن كل الاحتلالات الأجنبية في سورية، هناك نوع من التنسيق فيما بينها، على توزيع المصالح، وترسيخها، وتوفير البنية التحتية لاستمرارها، ونحن نشهد يومياً توسع تلك البنى الاحتلالية، وسنكون سذجاً إن اعتقدنا بقدرة طرف عربي على مناهضتها، فهذا أمر بات في طي الماضي.

المشكل الأساسي هنا، أن النظام منتهٍ (باقٍ بإرادة دولية كما حالة تركيا العثمانية عندما كانت رجلاً مريضاً)، وأننا كمجتمع وقوى سورية لم ننتج بديلاً قادراً على القيام بأعباء الدولة ولم نعد قادرين اليوم على ذلك، وأن المجتمع العربي (السلطوي، فلا وجود إلا لهذا المجتمع) غير معني إلا بالتخلص من المسألة السورية بغض النظر عن العواقب الأخلاقية، والانفجارات المستقبلية التي ستقع حتماً، طالما أن الظروف زادت سوءاً عما كانت عليه.

 

د. عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري