التحرك العسكري الروسي في سورية

 




فلنضع روسيا في مكانتها الدولية، حتى نستطيع فهم تحركاتها بشكل أوضح. روسيا هي قوة "تعديلية"، أو بصيغة أخرى "غير قانعة" بترتيبات البيئة الدولية القائمة، صحيح أنها لا تسعى لتهديم النظام الدولي، بل إلى إحداث تغييرات في آليات عمله، تضمن لها مكانة أعلى من السابقة، من خلال مجموعة سلوكيات، أساسها، بناء مجال نفوذ دولي، في كل مناطق التوترات والاضطرابات (مناطق الفراغ). وهو مشروع ابتدأ منذ عام 2008 في جورجيا أولاً، وكان له في سورية ارتكاز بالغ الأهمية لناحية استعادة روسيا بعض مكانتها الدولية، وحراكها العسكري.

من خلال مناطق النفوذ هذه، تُوسِّع روسيا مصالحها العسكرية والسياسية والاقتصادية أولاً، ثم تستخدمها لمزيد من التوسّع ثانياً، وفي الحالتين في التفاوض مع منافسيها (الغرب بشكل رئيس، والقوى الإقليمية)، للحصول على مصالح أخرى.

وهي ثالثاً، تستخدم مناطق النفوذ لدعم البنيان الاستبدادي على مستوى العالم، في مواجهة الليبرالية الديموقراطية الغربية. هناك مصطلح مهم ظهر عام 2017، هو "القوة الحادة"، والمقصود بها اشتغال الصين وروسيا على دعم الاستبداديات وتهديم الديموقراطيات على امتداد العالم، وصولاً إلى داخل الغرب ذاته.

من ذلك، يمكن أن نفهم أن روسيا، مُصرّة على الحفاظ على نظام استبدادي في سورية، بل وتكريس هذا النظام. ثم هي وباعتبار أنها ترى سورية منطقة جني مصالح، فهي في حالة تنافس مع منافسيها الرئيسين في سورية (الولايات المتحدة، إيران، تركيا)، لذا تحاول باستمرار توسيع دائرة مصالحها في سورية وتوسيع نفوذ الاستبدادية المدعومة روسياً.

فمصلحة روسيا الأعلى في سورية، هي وجود نظام استبدادي، غير إسلامي، مطواعٍ للشروط الروسية، هشٍ وقابل للتحكم فيه، مع بسط سيادة "شكلية" على امتداد الأراضي السورية. هذا يقطع الطريق على منافسيها من جهة، ويثبت فعالية دفاع روسيا عن "حلفائها" أو المستجيرين بها ثانياً، وهي دعاية بالغة الأهمية، أمنياً وعسكرياً لدى جميع الاستبداديات، بأن روسيا جاهزة لحمايتهم من "الحراك الديموقراطي التخريبي المدعوم غربياً"، وهو ما يحصل في أوزبكستان الآن.

ثم إن روسيا في سورية، ترتكز على قاعدة مستقرة في توسيع نفوذها العالمي، ونرى امتدادها الأخير نحو ليبيا كمثال على ذلك.

لكن في المقابل، الملف السوري ذاته، ملف تفاوضي/تنافسي/مصلحي، أي أنه متشابك مع ملفات مصلحية في مناطق أخرى، سواءً أكانت شرق أوروبا، أو بحر قزوين، أو وسط آسيا، أو سواها. ما نقصده أن القوى المتنافسة في منطقتنا، تلجأ إما إلى الاعتداء على مصالح بعضها البعض، أو على مقايضة مصالحها بأخرى، في ظل تسويات مصلحية، وتشارك المنافع. وهنا فإن القوة الإجمالي لكل منافس، هي من يحدد حصته من تلك المنافع.

يمكن وضع استمرار القصف الروسي في شمال سورية (مناطق النفوذ التركي)، ضمن هذا السياق، لكن بالتأكيد هناك تسويات وتبادل مصالح غير معلومة حتى الآن، إما أنها تحكم هذا المشهد، أو ستحكمه لاحقاً، وبالتالي لا يمكن الجزم بفرضية محددة، لكني أعتقد أن روسيا تأمل لاحقاً أن تكون قادرة على استعادة أكبر قدر ممكن من الأراضي السورية ووضعها تحت سيادة "شكلية" للنظام، بغض النظر عن إمكانية تحقيق ذلك من عدمه.

 

د. عبد القادر نعناع

باحث مختص بشؤون الشرق الأوسط