قمة طهران: التنافس الاستراتيجي المضبوط

 



طالما شكَّل الشرق الأوسط بيئةً عاكسة لطبيعة النظام الدولي وحركته، ويمكن العودة إلى التاريخ القريب لملاحظة هذه الانعكاسات، سواءً إبان الحرب الباردة، أو في فترة الأحادية القطبية. وهو ما يخلِق نمطاً متكرراً في السياسات الإقليمية شرق الأوسطية هو "نمط العَقْدِيّة decadal pattern"، ونعني به سياسات عامة تَسِم الإقليم وتتغيّر كل عقد تقريباً، بالتوازي مع التغيرات التي تطال البيئة الدولية وفق ذات النمط، دون أن يعني ذلك تاريخاً محدداً لبداية العقد، أو مدة 10 سنوات كاملة من السياسات، بل هي مقاربة لنمط من التوجهات العامة في الإقليم، تمتد إلى ما يقارب هذه الفترة.

بناءً على ذلك، يمكن الافتراض، أن العقد الثاني من القرن الحالي، انتهى منذ أشهر قليلة، بما يتضمنه من سياسات كان أبرزها:

-       الثورات الشعبية، وفوضى مساعي الدمقرطة.

-       الضغط الدولي في قضايا حقوق الإنسان والحريات والدمقرطة.

-       الاستفراد الأمريكي بالتوجهات العامة للمنطقة.

-       بروز قوى الإسلام السياسي السلمية والعنفية، في المشهد العام.

 

وبالتالي، فإن عقدنا الجديد هذا، سيحمل ضمناً، سياسات قد تكون مناقِضَة لسابقتها، وفق المتغيرات التالية:

-       بروز تنافس دولي، هو أشبه بإعلان انتهاء مرحلة القطبية الأحادية، وولوج مرحلة انتقالية في النظام الدولي، يقوم عليها ثلاثة قوى رئيسة: الولايات المتحدة وحلفاؤها، روسيا، الصين، إلى جانب قوى إقليمية تزداد قوة، وأبرزها: الهند، إيران، البرازيل، تركيا.

-       عودة الولايات المتحدة للبحث عن بناء تحالفات، أو تعزيز تحالفات سابقة، بغض النظر عن "مستوى الحريات السائد لدى الحلفاء"، وحتى بغض النظر عن مصالحهم العابرة للقوى، وهو نمط شبيه بتوجهات الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة. وهنا يفضل التمييز بين نوعين من حلفاء الولايات المتحدة:

o      حلفاء استراتيجيون: وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي، وإسرائيل والمجموعة الرباعية.

o      حلفاء مرحليون.

-       تراجع جاذبية الولايات المتحدة في عالم الجنوب، لصالح روسيا والصين.

-       عواقب اقتصادية واجتماعية فوضوية للمرحلة الانتقالية في النظام الدولي، ستترك تأثيرات سلبية في كثير من المجتمعات.

 

وعليه يمكن أن نرسم حدود العقد الجديد في الشرق الأوسط، وفق المحددات التالية:

-       العودة إلى نمط الحكومات المستقرة (الأوتوقراطية)، جنباً إلى جنب مع الحكومات الفاشلة الاستبدادية.

-       توسع الفراغ الاستراتيجي الذي ستعسى كثير من القوى الإقليمية والدولية إلى ملئه، رغم تصريحات الرئيس الأمريكي بايدن، بأنه لن يسمح للآخرين بملء هذا الفراغ.

-       بروز ثقل جديد للسعودية والإمارات، يمكن التعويل عليه –جزئياً–في الدفع نحو شكل من أشكال التوازن الإقليمي.

-       تراجع دور القوى من غير الدول non-state actors، لصالح الأدوار الحكومية.

 

هذه بعض المتغيرات الأساسية، التي يمكن من خلالها فهم سياق القمتين اللتين عُقِدتا خلال الأيام الماضية:

-       القمة الأمريكية مع قيادات عربية.

-       قمة طهران: قمة المنافسة الاستراتيجية المضبوطة Summit of Managed Strategic Competition.

 

وفيما سعت القمة الأولى، لإعادة ترتيب التحالفات العربية-الأمريكية، وتصحيح الخلل الذي وقع بين الطرفين خلال السنوات الماضية، مع تراجع ملحوظ في مكانة الولايات المتحدة ومستوى الثقة بها، على امتداد الإقليم والعالم. فإن القمة الثانية تستدعي كثيراً من المراقبة والحذر، حيث أن أصحابها، يتشاركون العمل العسكري داخل العالم العربي، وعلى حدود تماس بينهما بالغة التعقيد والخطورة والتسليح.

تأتي هذه المشاركة الثلاثية في المنطقة –إلى جانب الوجود الأمريكي – إما بشكل عسكري مباشر/احتلال، أو بإشراف مباشر/رعاية، أو عبر الحروب بالوكالة التي باتت السمة الرئيسة لإدارة التنافس في الإقليم، عبر أدوات محلية (أنظمة استبدادية فاشلة، ميليشيات طائفية، مرتزقة مسلحون، إلى جانب ثقافة أيديولوجية يتم من خلالها تعبئة الجمهور المستهدف). وبالطبع لا يمكن التحكم كلياً بهذه الأدوات، لذا يتم السماح لها بالتحرك بحرّية في المنطقة المستهدفة، ما يعزز ثقافة السلاح، خصوصاً مع انعدام مقومات الاستقرار والحياة في كثير من مناطق التنافس تلك.

هذا يدفعنا إلى القول إن قمة طهران، تسعى فيما تسعى إليه، إلى:

-       استيعاب القمة الأولى، والمتغيرات الدولية الجديدة.

-       إدارة التنافس بين القوى الثلاثة في الشرق الأوسط، بما يضمن عدم تصادمها ببعضها البعض، وتوفير حماية مشتركة لمصالحها.

-       هذا يوفر لها فرصة للانتقال إلى مناطق أخرى للبحث عن مصالحها في المرحلة الدولية الانتقالية، دون القلق على مصالحها شرق الأوسطية وشرق المتوسطية.

-       جهد مشترك لمنع وجود أطراف/قوى أخرى في المنطقة (الصين، وقوى عربية). أو السعي المشترك لإخراج الولايات المتحدة منها، وحتى توسيع رقعة وجود هذه القوى في الشرق الأوسط.

-       هذا يسمح لها بالحفاظ على علاقات ودية سياسية واقتصادية وعسكرية وصناعية، في ظل حالة استقطاب دولي، ما يجعل منها كتلة دولية فاعلة في ظل المرحلة الانتقالية على المستوى الدولي.

ورغم تقديرنا بتراجع دور القوى من غير الدول non-state actors، لكن من الضروري الحذر من بروز موجة تطرف/إرهاب جديدة، تديرها هذه الدول، في عملية تنافسها الاستراتيجية تجاه بعضها، أو تجاه بؤر جديدة مُستَهدَفة، وخصوصاً أنّ الحواضن الشعبية التي تعاني من الفقر والظلم والاستبداد، ما تزال قائمة دون معالجة لمظالمها التي تتراكم أكثر فأكثر، وما تزال تشكل عوامل جذب للقوى الخارجية وللتطرف معاً.

هذا يستدعي حراكاً عربياً بالغ الاستعجال، لإعادة تقدير مفهوم الأمن القومي العربي، واتخاذ إجراءات ربما تعتمد نفس المنهج الذي تعتمده القوى الخارجية، من خلال خلق أدوات محلية موازنة لأدوات تلك الدول. وهي مهمة دفاعية-هجومية، ترمي إلى حماية الدول العربية لذاتها من جهة، ومن جهة ثانية توسيع مجالها الحيوي من خلال استعادة المحيط العربي الذي تشتغل فيه القوى الخارجية، وهو الدول الفاشلة في الشرق الأوسط (سورية والعراق ولبنان واليمن وليبيا والصومال).

 

د. عبد القادر نعناع

أكاديمي وباحث في العلاقات الدولية