ترتيبات النفوذ والفراغ في الشرق الأوسط: الحاجة إلى بناء تيارات سيادة وطنية (مصر نموذجاً)

 

 


تنضبط العلاقات الدولية في الشرق الأوسط، وفق قواعد تقليدية، تستند بالأساس إلى النظرية الواقعية في القوة والمصالح والنفوذ والتحالفات. ورغم ما طرأ على النظام الدولي من تغييرات بعد الحرب البادرة، إلا أن تأثير ذلك في ترتيبات الشرق الأوسط كان ضيقاً، وسرعان ما انهارت ترتيبات العقد اللاحق لغزو الكويت، لصالح عودة الترتيبات المعتادة، مع بروز تكلتين رئيسين: المعتدلين والمقاومين، اللذين حكما المنطقة حتى انهيار كل تلك الترتيبات لصالح ترتيبات جديدة قائمة بعد 2011.

ستسهم هذه المتغيرات في تعزيز القوى الإقليمية، وفتح المجال أمام قوى دولية لتوطين نفوذها، بينما ستبرز دول عربية جديدة في ترتيبات النفوذ (الإمارات وقطر)، مستفيدة من الفراغات الاستراتيجية الواقعة في المنطقة، ومن فوائضها المالية والسياسية من جهة أخرى.

 

المشهد العربي بعد عام 2011:

أخرجت ثورات الربيع العربي، سورية وليبيا واليمن، من معادلات القوة والنفوذ في المنطقة، وأضيفت إلى العراق الذي تم إخراجه نظرياً منذ عام 1990، وعملياً منذ 2003. وهذا ما قاد إلى وجود فراغات استراتيجية في هذه الدول، دفعت بها إلى أن تكون دولاً فاشلة أتاحت للفاعلين الأكثر استعداداً (الدول وغير الدول)، أن يحوزوا على نفوذ طويل الأمد فيها، في عملية تعظيم المكاسب أو صد المخاطر الناجمة عن هذه الدول الفاشلة.

ربما تكون مصر استثناءً من ترتيبات ما بعد 2011، أي من ترتيبات الفوضى والفشل، وإن كانت قد شهدت فترة وجيزة من بدء تحولها إلى منطقة نفوذ إيرانية (مشروع قيد الولادة آنذاك) في ظل حكم جماعة الإخوان، إلا أنه سرعان ما تمت استعادة سيادتها من قبل قوى محلية (قوى السيادة الوطنية)، لتخرج مصر من دائرة الفوضى الإقليمية، لكنها لم تستطع بعد أن تستعيد نفوذها الإقليمي، الذي اندفعت قوى أخرى لتعبئته.

ولعل مشهد الفراغ العربي، سمح للقوى العربية الجديدة (الإمارات وقطر)، أن تكونا صاحبتي جرأة إقليمية، بحثاً عن حيازة مكانة إقليمية، وتعزيز مصالحهما من جهة ثانية، أو تقويض خصومهما (وهما بالأساس خصمين إقليميين متنافسين بشدة) ثالثاً، في ساحات الفراغ تلك، مع اختلاف نهجي الدولتين.

 

 النفوذ الإقليمي والدولي

لكن النفوذ الأهم والأوسع والأكثر خطورة، كان نفوذاً إقليمياً، تتصدّره إيران بالأساس، ضمن مشروع (قومي-ديني)، يتّسم بالجرأة الإقليمي، بمعنى عدم انتظار تسويات أو ترتيبات إقليمية تضمن لها مكانتها في هذا الفراغ، أو تقرّر حصة لها من المصالح المتاحة. وإن كانت قد بدأت مشروعها منذ ثمانينيات القرن العشرين، مع حربها على العراق، وعبر لبنان وسورية (التحالف مع الأسد الأب وإنشاء حزب الله)، قبل أن تتحوّل إلى العمل المباشر داخل الدول العربية بعد 2003 في العراق، ثمّ تثبت امتداداها من طهران حتى المتوسط غرباً، وحتى مضيق باب المندب جنوباً. جاعلة من الدول الفاشلة هذه، قاعدة أساسية لتوسيع مشروعها، الذي يتطلع إلى الجزيرة العربية ومصر في مراحل متأخرة.

ربما ما يميز النهج الإيراني، أنه طويل المدى واستراتيجي، وأنه بنائي، بمعنى أنه قائم على مراكمة مناطق النفوذ ومقومات القوة، واستخدامها في التفاوض. فيما يتسم أسلوب المفاوضات الإيرانية، بأنه يجمع بين العمل العسكري المستمر على الأرض (عبر ميلشيات محلية سنية وشيعية وأنظمة سياسية)، وبين التفاوض الدبلوماسي التقليدي غير التنازلي/غير التشاركي في المحافل الدولية. وهنا لابد من تسجيل ملاحظة مهمة، هو عدم تخلي الإيرانيين عن حلفائهم أو أدواتهم في المنطقة، بل استمر دعمهم، وهي سياسة سيفتقدها خصومهم.

النفوذ الآخر، وهو نفوذ لم يكن ليبرز لولا انهيارات ما بعد 2011، وهو النفوذ التركي، لكنه ورغم ما أحرزه من تقدم في بعض مناطق الفراغ، إلا أنه لا يمتلك ذات الجرأة الإقليمية التي تمتلكها إيران من جهة، في حين يعتمد كثيراً على التسويات والمفاوضات والتنازلات المتبادلة. كما أن المشروع التركي غير متسق حتى الآن، ويعاني من اضطرابات داخلية من جهة ثانية، فيما لا تمتلك تركيا ذات الموثوقية والاستمرارية لدى حلفائها أو أدواتها التي تمتلكها إيران، إذ شهد النهج التركي، قابلية التخلي عمن يفترض أنهم حلفاء أو أدوات لها، لصالح إعادة تشكيل مشروعها وفق المتغيرات الطارئة، أي أن مشروعها بحد ذاته ما يزال قيد التشكل والتغيير.

أما النفوذ الدولي الأبرز، فكان النفوذ الروسي، الذي استفاد من متغيرات الفراغ الاستراتيجي شرق الأوسطي هذه، ليستخدمها ضمن مشروع دولي أوسع بكثير (استعادة مكانة روسيا)، وكان الأكثر هيمنة على مستوى السياسات والحكومات، وخصوصاً في سورية وليبيا، لكن النفوذ الأرضي (الامتداد العسكري والميليشياوي)، يبقى للقوى الأخرى. وتمتاز روسيا كما إيران بالمصداقية واستمرارية إسناد حلفائها/أدواتها.

بالتأكيد هنا فاعلون جدد، على مستوى النفوذ، وإن كانوا أقل أهمية، أو أنهم انحسروا في المرحلة الحالية، من مثيل (القاعدة وحركات الإسلام السياسي وما يتفرع عنها، الحركات الانفصالية، قوى التمرد/الثورات). حيث استفادت جميع القوى النافذة من تراجع النفوذ الأمريكي المتعمد، ومن الفراغات التي نشأت عنه.

 

الحالة السعودية:

لكن الحالة الأكثر تناقضاً في المشهد الإقليمي، هي الحالة السعودية، وخصوصاً أنها قوة إقليمية كبيرة، في مواجهة قوتيين شديدتي التنافس (إيران وتركيا)، وفي مواجهة خصوم أقل شأناً مع نفوذ واسع (قطر، حركات الإسلام السياسي، الميليشيات الإيرانية). أي أنه من المفترض أن تنخرط السعودية بشكل واسع في مناطق الفراغ المحيطة بها، والتي تُعتبر مناطق عمق استراتيجي لها (دينياً وقومياً وأمنياً)، أو بصيغة أخرى (مجالاً حيوياً)، مستفيدة من كل الأدوات التي تشتغل بها القوى الأخرى، مع ميزة عليا –يفتقر إليها منافسوها– هي شرعية اشتغالها إقليمياً (قبول شعبي عربي لدور سعودي واسع).

وهنا يمكن تقسيم الدور السعودي الإقليمي بعد 2011، إلى مرحلتين: الأولى استمرت حتى عام 2017، حيث شهدت دعماً لاستعادة مصر سيادتها وإقصاء جماعة الإخوان عن السلطة وعن تحويل مصر إلى موطئ إيراني، ودعم واسع للحراك الشعبي السوري (عسكرياً وسياسياً ومالياً وإعلامياً)، حتى باتت السعودية (عبر حلفائها) على مشارف دمشق. فيما كانت تحاصر توسع الميليشيات الحوثية في اليمن على حدودها الجنوبية.

لكن منذ عام 2017، بدء النهج السعودي إقليمياً، بالتحول نحو التخلي عن مناطق النفوذ تلك، والمساهمة بخلق فراغات ستسارع القوى الأخرى لملئها، وخصوصاً في سورية ولبنان، مع تأخر الإنجاز في ليبيا واليمن. والتخلي عن عدد ممن حلفاء/أدوات السعودية، ما جعل النفوذ السعودي ينحسر إلى داخل السعودية، التي تعرض أمن مدنها للتهديد من قبل ميليشيات إيران، مرات عدة، أو أنها باتت هدفاً لتوسع النفوذ الإقليمي تجاهها.

 

التحديات الراهنة (منهج عمل):

يكرس التراجع الأمريكي هذا الفراغ الاستراتيجي، سواء كان تراجعاً أمريكياً مقصوداً عبر فك الارتباط المتصاعد مع الشرق الأوسط، أو عبر تراجع هيبة/مكانة الولايات المتحدة شرق أوسطياً وعالمياً، لصالح القوى الجديدة (روسيا والصين). وحيث أن البيئة الدولية ككل تذهب باتجاه مرحلة دولية جديدة بالغة الخطورة والتحدي، يمكن اعتبارها مرحلة انتقالية في النظام الدولي، فإن الفراغات الاستراتيجية ستتسع أكثر فأكثر، فيما يكون للفاعلين الأكثر جرأة قدرة على انتزاع مزيد من المصالح والنفوذ، في هذه المرحلة. وهو ما يمكن ملاحظته في المشروع الإيراني بشكل مباشر.

ومن دراسة المشروع الإيراني في الشرق الأوسط، يبدو أن تكلفة مد النفوذ والهيمنة العسكرية (المباشرة وغير المباشرة)، باهظة بشكل كبير، وخصوصاً مع سوء الإدارة الإيرانية لشأنها الداخلي، لكن المؤكد أن التكلفة البديلة لعدم التدخل ستكون أكبر بكثير مما يمكن تحمله، وبما يدفع الدولة في الشرق الأوسط إلى أحد خيارين اثنين: إما أن تكون صاحبة نفوذ وإما تكون منطقة نفوذ.

لعل التجربة السعودية في دعم (تيار السيادة الوطنية) في مصر، كانت تجربة ناجحة في إسناد مصر في أشد حالاتها اضطراباً، ساعد على نجاح ذلك عوامل مصرية داخلية كثيرة لا يتسع المجال لتبيانها. وبالتالي يمكن استخدام ذات المنهج، لكن مع أدوات مختلفة في الدول الفاشلة في الشرق الأوسط (أي: خلق تيارات سيادة وطنية). لكن مع الانتباه إلى أن محاولة استخدام أدوات إيران (دفع ميلشيات إيران والأنظمة المتحالفة معها، للانشقاق عنها)، هو نهج طالما أثبت فشله، بل عزز من مكانة إيران إقليمياً، في وقت تصرّ فيه إيران على استخدام مزيج من القوة الصلبة والعقيدة الشيعية والخطاب المقاوم، كأدوات رئيسة في الاحتفاظ بنفوذها وتوسيعه في عموم الشرق الأوسط.

 

د. عبد القادر نعناع

أكاديمي وباحث في العلاقات الدولية والشرق الأوسط