نظام الملالي لم يعد صالحاً لإدارة الدولة الإيرانية (مقابلة)

 أكد د. عبد القادر نعناع، الباحث المتخصص في الشؤون الدولية، رئيس المكتب الاستشاري لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أن إيران "دولة مارقة" لأنها تعمل منذ قيام ثورة 1979 ضد ترتيبات دولية احتاجت أربعة قرون حتى تترسخ في المجال الجيوسياسي العالمي، مشيراً إلى أن المشروع الإيراني يقوم على دعاوى تاريخية ومذهبية وقومية، الهدف منها بناء "إمبراطورية فارسية" جديدة.

 



حاوره: شريف عبد الحميد، رئيس مركز الخليج للدراسات الإيرانية



تصنفون إيران في أعمالكم، وأحدثها في المكتب الاستشاري لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، باعتبارها القوة الأكثر خطورة على استقرار وأمن منطقة الشرق الأوسط، ما الذي يجعل إيران تحتل هذه المرتبة؟

يقوم هذا التصنيف على مجموعة معايير، من ضمنها، حجم التدخل العسكري المباشر وغير المباشر، وحجم التهديد الذي تمثله الدولة لجوارها، وحجم السيطرة أو التدخل في عمليات صنع القرار لدى دول الإقليم، وحجم ودور الفاعلين من غير الدولة الذين ترعاهم هذه القوة، ويضاف إلى ذلك بالطبع، الملف النووي، عدا عن تداعي الأوضاع الداخلية فيها. جميع هذه العوامل تعزز فكرة أن إيران دولة مارقة.

هذا التوصيف، ليس مجرد توصيف أمريكي لقوى مناهضة للولايات المتحدة، بل يمكن تفصيله بناء على رفض إيران شكل الدولة-الأمة والترتيبات الدولية المؤسستية الراسخة في النظام الدولي، ومحاولة إعادة منطقة الشرق الأوسط إلى العصر الإمبراطوري السابق للدولة-الأمة.



وماذا يعني ذلك؟

هذا يعني أن إيران تشتغل ليس بالضد من مصالح الولايات المتحدة فحسب، بل بالضد من النظام والترتيبات الدولية التي احتاجت أربعة قرون حتى تترسخ، وهو ما يجعلنا نؤكد على وصفها قوة مارقة.

الإشكال هنا، أن إيران بالفعل هي الأكثر خطورة بين متنافسين متعددين في فراغ استراتيجي يجذبهم، فالمشروع الإيراني يقوم على دعاوى تاريخية وأيديولوجية ومذهبية وقومية، جمعيها تدفع إلى استحضار لحظة تاريخية قصيرة "كانت مجيدة لدى الفرس" قبل عشرات القرون، ومحاولة بناء إمبراطورية فارسية جديدة. هذا ما دفع النظام لإيراني إلى عملية تهديم للمناطق التي امتد إليها النفوذ الإيراني، وهو تهديم يشمل تطهيراً بشرياً قدر الإمكان، وتفريغ المنطقة من أصحابها، لتكون جاهزة لتبيئة المشروع الإيراني. بمعنى آخر، هو نهج مشابه للنهج الإسرائيلي، لكنه على امتداد أكثر اتساعاً منه بكثير.

ما يزيد من خطورة إيران في المنطقة عن سواها، أنه لا يمكن بشكل من الأشكال، فصل إيران عن الإقليم، فهي جزء أصيل منه، تاريخياً وبشرياً ودينياً وحضارياً وعرقياً. هذا يضاعف من خطورتها الإقليمية، حيث يمنحها –بالنسبة لها على الأقل– "شرعية" لعمليات التدخل واسعة النطاق ومتعددة الأدوات.



ذكرتم، مصطلح الفراغ الاستراتيجي الجاذب للقوى المتنافسة، وكنتم قد كتبتم حول ذلك في أكثر من موضع، ماذا تقصدون بهذا الفراغ؟

بداية، نعني به، غياب سلطة ضابطة لمنطقة جغرافية ما (دولة أو إقليم)، هذه السطلة الضابطة إما أن تكون محلية (الحكومة الضابطة للدولة)، أو أن تكون قوى إقليمية أو دولية، واحدة أو أكثر، ضابطة لدولة أو لإقليم. في منطقتنا، ومنذ عام 1991 أي منذ تحرير الكويت والحرب الأهلية في الصومال، بدأنا نشهد بروز هذا الفراغ بشكل تدريجي، وإن لم تكن بدايته ملحوظة، لكنه سيشتد بعد عام 2003 بعد احتلال العراق.

اليوم لدينا مجموعة من الدول العربية (سورية، العراق، ليبيا، الصومال، اليمن، لبنان، والسودان نوعاً ما)، جميعها تشهد فراغاً محلياً، حيث لا تسيطر الحكومات على كامل تلك الدول (تنافس محلي بين قوى سياسية وعسكرية)، إلى جانب غياب قوى خارجية ضابطة.



ما هو دور هذه القوى الخارجية الضابطة بالتحديد؟

وحتى نفهم دور القوى الخارجية الضابطة، يمكن استخدام أفغانستان مثالاً على ذلك، ففي حين لم تكن هناك حكومة واحدة قادرة على إدارة الدولة منذ تحريرها من الاتحاد السوفييتي، إلا أنها منذ 2001 كانت تحت ضبط أمريكي (أي فراغ مملوء بالقوة الأمريكية وحدها، ما يعني انعدام الفراغ)، في حين أنه في منطقتنا لا يمكن رصد مثل هذا الضبط، بل هي عملية تنافس بين قوى إقليمية (إيران، تركيا، إسرائيل، السعودية، الإمارات، قطر)، وأخرى دولية (الولايات المتحدة وحلفاؤها، روسيا، فيما تحاول الصين الحصول على موطئ قدم)، هذا التنافس يقوم في البيئات المنهارة/الفاشلة في العالم العربي، والتي للأسف تتسع شيئاً فشيئاً منذ عام 2011.

في هذا الفراغ غير المضبوط، نرى أن إيران هي الأكثر امتداداً من سواها، والأكثر عنفاً أيضاً، ما جعلها حاضرة عسكرياً (بشكل مباشر أو غير مباشر)، في العراق وسورية ولبنان واليمن وقطاع غزة، وحاضرة سياسياً وأيديولوجياً في أبعد من ذلك.



كيف تسنى لإيران الحصول على هذا المكانة الخطيرة في الشرق الأوسط، وما هي أبرز محددات سلوكها الإقليمي المهدِّد لاستقرار الإقليم؟

إيران كانت إلى جنب العراق، تحت ضبط أمريكي ضمن سياسة الاحتواء المزدوج منذ 1994، لكن احتلال العراق، فتح المجال واسعاً أمام إيران للعمل ضمن البيئات العربية. هنا يمكن أن نرصد بداية تبلور ما يمكن تسميته "الجرأة الاستراتيجية"، أي أن إيران لم تنتظر قيام ترتيبات أمنية إقليمية جديدة، بل سارعت إلى استغلال الفوضى والفراغ الذي حصل لتملئه بمصالحها "المبادأة الاستراتيجية"، ولتحوز على حصة من هذا الفراغ، ثم لتفاوض القوى الأخرى، ومن ضمنها الولايات المتحدة، على الترتيبات الأمنية الإقليمية.

يمكن تسمية هذا النهج بنهج "تحمل المخاطر Risk-taking"، أي أن إيران كانت تدرك مبكراً أن هناك مكاسب كبيرة في التدخلات الإقليمية، لكنها مكاسب محفوفة بتهديدات خطيرة، ورغم ذلك، فضلت أن تمضي قدماً، على خلاف القوى الإقليمية الأخرى، التي كانت تحت تأثير الصدمة من جهة، وبانتظار الحصول على تسويات إقليمية جديدة من جهة ثانية.

لكن، لم يكن لإيران أن تمضي في هذه النهج، لولا امتلاكها سلة أدوات مضبوطة، بداية من بناء الأحلاف أو الوكلاء في المنطقة، وأبرزها:

- الميليشيات "الشيعية" العابرة للحدود، التي وجدت في إيران راعياً سياسياً وعسكرياً وأيديولوجياً لها (ارتباط عضوي أصيل).

- الجماعات الإسلامية "السنية" الأيديولوجية (مثل القاعدة والإخوان وسواهم)، أصحاب نظرية "الإسلام القومي"، والتي وجدت في إيران شريكاً لها (ارتباط أممي).

- جماعات براغماتية (أنظمة سياسية ونخب محلية عربية)، وجدت في إيران ضامناً لمصالحها الضيقة (ارتباط براغماتي).

- وربما جماعات انفصالية، وجدت في المشروع الإيراني سبيلاً للاستحواذ على بيئاتها الجغرافية، وإن لم تتشارك مع إيران في مشروعها (ارتباط تفكيكي).

وبناء عليه، نلحظ أن لدى إيران، خطة عمل، وقاعدة تاريخية وأيديولوجية تحرك مشروعها، وأدوات عسكرية وسياسية مضبوطة، ومساعدات مالية وعسكرية غير منقطعة لوكلائها، وتحمل الأضرار الناتجة عن التنافس الإقليمي (التي جعلت إيران واحدة من أكثر دول العالم عزلة عن البيئة الخارجية وباقتصاد منهار). هذه النهج المتكاملة، غير متوافرة لدى منافسيها في الإقليم، حتى لدى الأمريكيين.



هل تعتقدون أن الأمريكيين، أو إدارة أوباما كما يشاع، كانت وراء دفع إيران إلى الوصول إلى هذه المكانة الإقليمية؟ وإن لم تكن، لِمَ لَمْ تتدخل الولايات المتحدة عسكرياً ضد إيران؟

يتم تحميل إدارة أوباما كثيراً من اللوم حول صعود المشروع الإيراني، بعض هذا اللوم حقيقي، وبعضه مجرد محاولات تعمية. فالمشروع الإيراني كما ذكرنا، بدأ على الأرض مع حزب الله منذ الثمانينيات، وانطلق بعد احتلال العراق في عهد بوش الابن. ما طرحه أوباما، كان قائماً على فكرة أن إيران أصبحت جزءاً من الفاعلين الرئيسين في المنطقة (أو الفاعل الأكثر نشاطاً)، وأن على دول الإقليم تقبل ذلك، والعمل مع إيران والولايات المتحدة لصوغ سياسات إقليمية جديدة تراعي هذه المتغيرات وهو ما لم تقبله الدول العربية الفاعلة آنذاك (الخليجية). وبناء عليه، جاء المشروع الأمريكي في التوصل إلى الاتفاق النووي، ورغم كل مثالبه، إلا أنه على الأقل وضع المشروع النووي الإيراني تحت رقابة دولية، قبل أن يعود ترامب عن الاتفاق، ويتيح لإيران إعادة تفعيل نشاطها النووي.



فلماذا لم تتدخل إدارة ترامب عسكرياً ضد إيران؟

كثيراً ما يطرح في العالم العربي، فكرة أن الولايات المتحدة لم تواجه إيران عسكرياً (ضمن نظرية المؤامرة)، أو أنها تخلت عن حلفائها. ربما لم تقدم الولايات المتحدة لحلفائها العرب، المساعدة اللازمة لذلك، لكن ينبغي أن ندرك أنه لا مصلحة أمريكية في إشعال حرب في الشرق الأوسط مع إيران، لا يُعلَم حدودها، في وقت يشهد النظام الدولي مرحلة سيولة عالية، ومرحلة انتقالية ما تزال قيد التبلور. أي أن الولايات المتحدة (ومنذ مطلع العقد الماضي)، كانت مشغولة بالصعود الصيني، ثم أضيف إليه التحرك الروسي العسكري في الشرق الأوسط وشرق أوروبا. وهي مصالح أكثر أهمية وخطورة للولايات المتحدة من مسألة مواجهة إيران. فهنا الحديث عن النظام الدولي "الأمريكي"، وليس مجرد مصالح إقليمية بالغة التكلفة.

نعم، كان يفترض بإدارة ترامب، الدفع نحو عمل عسكري ولو محدود رداً على استهداف حقول أبقيق 2019، وخصوصاً أن ترامب كان على علاقة وطيدة بالحكومات الخليجية، وكان يمكن اتخاذ مثل هذا الإجراء تحت حملته "الضغط الأقصى"، لكنه لم يكن مستعداً لتحمل تداعيات ذلك.

الإشكال الأكثر خطورة، هو ما بعد الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط، حيث تتراجع الولايات المتحدة عن حضورها الصلب في المنطقة، وعن مشاركتها في قضايا المنطقة، ما يخلق بالحتمية فراغاً ستسعى القوى الأخرى إلى ملئه، وفي مقدمتها إيران وتركيا وروسيا، على حساب الدول العربية.



ما رأيك بالنهج العربي في مواجهة إيران، هل تعتبر أن هذا النهج قدّم ما يفترض به أن يفعل، أم أنّ هناك أبعد من موضوع الخذلان الأمريكي باتجاه أخلال عديدة في النهج العربي؟

نعم، هو أبعد من موضوع الخذلان، في حال وافقنا –تجاوزاً– على فكرة الخذلان الأمريكي، الإشكال هنا، أن عملية صنع القرار لدى الطرفين مختلفة تماماً، أقصد لدى الفرس ولدى العرب. ففي إيران، هناك قيادة واحدة في مواجهة عدة حكومات عربية متباينة التوجهات والمصالح. هذه من جهة. عدا عن أن نهج إيران عدواني استباقي، وكما أسميناه "جرأة أو مبادأة استراتيجية"، أي أنه نهج فعل "act"، فيما كان النهج العربي موزعاً بين نهج رد الفعل "react" والنهج السلمي الدافع نحو استاتيك المنطقة، أي المحافظة على الأوضاع القائمة دون تغيير، وفي حال وقوع خلل فيها، فإن النهج العربي يسعى إلى استعادة الضبط السابق، وفي أحسن الأحوال يكون سعياً نحو خلق استاتيك جديد.

الإشكال إذاً يتعلق بمفهوم الأمن الإقليمي، ولن أقول الأمن العربي أو القومي، لأنه هذا المفهوم أصبح غير واقعي ولم يعد بالإمكان الخوض فيه. نحن اليوم بحاجة إلى توافق إقليمي جديد، حول مفهوم الأمن، ومحددات التهديد فيه، وآليات الاستقرار.

إشكال آخر في النهج العربي، أن مشروع إيران يجري على أرض عربية، فيما رد الفعل العربي منحصر في الأرض العربية (دفاع)، وعليه من الطبيعي أن نرى أن الخراب الأكبر يقع في البيئات العربية، ومن ثم يمتد إلى بيئات عربية جديد. وهنا يبرز ما تسميه إيران "الصبر الاستراتيجي Strategic Patience"، حيث أنها غير معنية بمجرد الحصول على مكاسب آنية، بقدر ما هو مشروع بعيد المدى، قد يمتد لعقود لاحقة.

عدا عن أن هناك دولاً عربية لا ترى في إيران أية خطورة على استقرار الإقليم، بل على العكس، تقدم لإيران تسهيلات جمة. فيما تُضيّق دول عربية أخرى مفهوم الأمن الوطني أو الإقليمي حتى لا يشمل الدول العربية الواقعة تحت النفوذ الإيراني، وبالتالي يكون بإمكانها التقليل من شأن هذا التهديد الإيراني.

أستاذنا الطيب تيزيني –رحمه الله– كان صاحب جدلية مهمة بهذا الخصوص، تقوم على فكرة أنه "ليس لخارج ما أن يتدخل في داخل ما إلا من خلال أقنيته"، أي أن إيران، وسواها، تستفيد من الخراب الواقع في البيئات العربية، لترسيخ مشروعها أكثر فأكثر.

إشكال آخر يمكن إضافته هنا، وهو أن وكلاء إيران المذكورين سابقاً، يعملون ضمن نهج أيديولوجي واضح ومضبوط وبعيد المدى، والعلاقة بينهم وبين إيران موثوقة، ويدرك هؤلاء الوكلاء أن إيران لن تتخلى عنهم. في المقابل، نفتقد في المشهد العربي لمثل هذه العلاقة بين القوى العربية الحالية وبين وكلائها، بل بعضها لم يمتلك وكلاء حتى.



هل لك بتوضيح فكرة الأدوات أو الوكلاء هذه، وهل تقصد أن على الدول العربية أن تواجه إيران داخل إيران، ومن هي الدول العربية المؤهلة لذلك بالأساس؟

أولاً أنا أتحدث عن القوى العربية الفاعلة، لدينا دائماً قوى عربية تتصدر المشهد العربي، حيث انتقلنا من تصدر الرباعي مصر والعراق وسورية والسعودية، إلى تصدر السعودية والإمارات بدرجة أولى، مع احتفاظ مصر بمكانة إقليمية لا يمكن تجاهلها. هناك قوى فاعلة أصغر، هي أقرب إلى إيران منها إلى الأمن الإقليمي (نقصد قطر بالطبع).

أما موضوع الأدوات، فلا يمكن مواجهة ميليشيا مثل ميليشيا الحوثي عبر طائرات F-16، ولا يمكن استخدام أدوات إيران نفسها لمحاربة إيران (الأنظمة والنخب العربية الموالية لإيران)، عدا عن إشكالية الموثوقية. السعودية خلقت حلفاء أو وكلاء في المنقطة ثم تخلت عنهم، ما خلق فراغاً إضافياً في الفراغ الأساسي، سارعت تركيا لملئه مباشرة. عدا عن أن هؤلاء الوكلاء لم تتم إدارتهم عبر نهج إقليمي متكامل يهدف إلى مواجهة إيران من جهة، واستعادة ضبط المنطقة مر أخرى، بل كان في كثير منه رد فعل على وجود إيران، كان أقرب إلى عملية استنزاف مالي، هذا النهج يخلق مرتزقة وليس وكلاء.

النقطة الثالثة، نعم لا يمكن الاكتفاء بمواجهة إيران في العراق وسورية واليمن وسواها، إن لم يتم نقل الصراع إلى داخل إيران، وعبر وكلاء محليين في إيران، فإن الخاسر الحقيقي سيبقى الطرف العربي، فيما تتسع رقعة الخراب التي تغذيها إيران.

إيران إلى الآن لم تتضرر سوى اقتصادياً، مع أضرار بشرية عسكرية محدودة للغاية، حيث أن تكلفة العمل العسكري الإيراني منخفضة للغاية (عناصر شيعية أو تم تشيعيها، أيديولوجيا، سلاح خفيف، دعم دائم). هذه التكلفة المخفضة كانت مكاسبها كبيرة (إدارة دول، تهجير ملايين السكان، قتل مئات آلاف العرب إن لم يكن ملايين العرب، تدمير بنى تحتية، تعطيل المستقبل المنظور والمتوسط للدول المستهدفة).



إذاً أنت ترى أن عملية التشييع (التبشير المذهبي)، هي أكبر من قضية دينية، أي أنها ذات بعد عسكري؟

بالتأكيد ذلك، نظام الملالي لم ولن يختلف عن أي نظام فارسي آخر في عدائه للعرب ومشروعه المستهدِف للعرب، ربما ما يميز نظام الملالي، هو استخدام الدين ومزجه بالقومية، لذا تقاطع مع الحركات الجهادية والإرهابية التي تنتمي إلى نفس المدرسة (الإسلام القومي). وهو يدرك أنه غير قادر على مواجهة دول المنطقة بشكل مباشر، وخصوصاً بعد تجربته مع العراق في حرب السنوات الثمان، وبعد أن رأى مصير العراق بعد اجتياح الكويت. لذا إيران عمدت بشكل أساسي إلى التدخل العسكري غير المباشر (عبر الوكلاء).

هؤلاء الوكلاء على أنواع كما ذكرنا، الشيعة منه، إما أنهم جزء أصيل من المشروع (حزب الله مثلاً)، أو مجرد مرتزقة شيعة (عناصر الميليشيات المتفرقة)، ومنهم متشيعون جدد لأسباب مادية أو عقائدية أو سواها، يتم ضخهم بعد أدلجتهم في الماكينة العسكرية الإيرانية وبالتكلفة المنخفضة التي ذكرناها.

لذا نرى نشاطاً إيرانياً تبشيرياً يمتد من أقصى شرق آسيا، إلى إفريقيا جنوب الصحراء، بحثاً عن مقاتلين، تحت شعار "نصرة آل البيت"، لتحويلهم إلى سلع عسكرية، مع رواتب مجزية لهم، ومناصب عسكرية، وخدمات جنسية، بل وتوطين في بعض البيئات المستهدفة (كما يجري في سورية)، إضافة إلى الوعود الإلهية بالجنة. هؤلاء لا يمكن هزيمته بالباتريوت وF-16 والصواريخ بعيدة المدى.



نصل إلى مسألة النووي الإيراني، هل تعتقد أن إيران ستمتلك سلاحاً نووياً، أم أنها مجرد مناورة، وماذا لو امتلكت هذا السلاح فعلاً، ما هو مستقبل المنطقة في ظل قوة نووية إيرانية؟

حملة الضغط الأقصى التي شنها ترامب على إيران، أدت بالمحصلة إلى تخلي الطرفين عن التزاماتهما الدولية، وهو ما ساعد إيران إلى الارتقاء إلى مرتبة "دولة عتبة نووية" مع مستوى تخصيب عند 60%، وهو مستوى قريب للغاية من مستوى الحصول على تقنية السلاح النووي. وتشير التقديرات إلى أنه بإمكان إيران –في حال رغبت بذلك– أن تصل إلى مستوى فوق 90% خلال 3 أسابيع. طبعاً هذا على المستوى التقني، لكن على مستوى تسليح التقنية فهو أعقد من ذلك.

برأيي، رغم كل المناورات الإيرانية، فإن إيران معنية بأمرين حالياً، قبول مكانتها باعتبارها دولة عتبة نووية وعدم تجاوز ذلك، بهدف الانفتاح الدولي ورفع العقوبات. أي ان الملف النووي وسيلة ضغط حتى الآن. لكن في حال لم تُجدِ، فإن إيران أصبحت تمتلك من المعرفة العلمية ما يؤهلها للوصول إلى السلاح النووي في وقت قصير للغاية. ولا أظن أنها ستتخلى عن هذه التقنية، وخصوصاً بعد الدرس الأوكراني والعراقي والليبي.

في حال امتلكت هكذا سلاح، فإنه سيمنح إيران مزيداً من القوة السياسية الإقليمية والدولية، وبالتالي تعزيز مشروعها الإقليمي.



لإيران علاقة إقليمية ودولية مهمة، ما دور هذه العلاقة فيما يجري في المنطقة، وهل تعتقد أنه يمكن لشبكة العلاقات هذه أن تضبط السلوك الإيراني؟

علينا أن نميز بين نوعين من العلاقات الإيرانية، الأولى علاقات تشابك عالية المستوى، وهي مع روسيا وتركيا، حيث تتنافس هذه الدول على إدارة الفراغ شرق الأوسطي. ومنعاً لتصادمها، هي تدير هذه المنافسة عبر القمم الرئاسية المتناوبة فيما بينها. ربما يقع بعض الصدام المسلح على الأرض بين وكلاء كل طرف، لكن هذا لا يعني أن هناك إشكالاً بين هذه الدول، بل على العكس، هي حريصة على الاستفراد بالفراغ شرق الأوسطي، وإبعاد الولايات المتحدة والقوى العربية عنه.

الأخرى، هي علاقات مصلحية واسعة، وأبرزها مع الصين. ولا نعتقد أن الصين أو سواها معني بشكل مباشر بضبط السلوك الإيراني، وخصوصاً في مرحلة السيولة الدولية، فكل قوة كبرى تبحث عن حلفاء لها (دون ضغوط)، وهي بالأساس سمة صينية.

الإشكال هنا، أن بعض القوى العربية، ترى أن التقرب من شبكة علاقات إيران، سيدفع دول هذه الشبكة إلى الضغط على إيران أو تقييد مشروعها أو التخلي عنها، ولا أعتقد أن ذلك وارد.

عوضاً عن ذلك، بإمكان القوى العربية بلورة مشروع حقيقي على الأرض، وجلب دعم دولي له، عوضاً عن الطلب من القوى الدولية مواجهة إيران بالوكالة عنها، فالعلاقات الدولية لا تجري بهذا الشكل.

هناك أيضاً إشكال آخر، هو الاعتقاد أن التحالف مع إسرائيل سيقود إلى مواجهة إيران، إسرائيل نفسها، ورغم كل التصريحات، غير قادرة على مواجهة إيران أو سواها، دون دعم أمريكي مفتوح، أي انخراط أمريكي عسكري مباشر، وهو أمر يفوق قدرة الولايات المتحدة ورغبتها ومصالحها الحالية، أي أن ما تفعله إسرائيل هو محاولة استدراج الولايات المتحدة إلى حرب مفتوحة مع إيران، فيما حدود الفعل الإسرائيلي لا تتجاوز عمليات التخريب والاغتيال والقرصنة، أو مواجهة إيران في الأراضي العربية (كما يحصل في سورية بشكل شبه يومي)، لكن حرباً مع إيران، ستعني بالضرورة انهياراً شرق أوسطي أكثر حدة بكثير مما هو قائم اليوم، لا مكان له في الاستراتيجيات الأمريكية الحالية.



يطول الحديث عن المسألة الإيرانية وتداعيتها الإقليمية، برأيكم، كيف ترون مستقبل الداخل الإيراني في ظل الاضطرابات الأخيرة، وهل تعتقدون أن هناك تغييراً قد يقع في النظام الإيراني، وفي أي اتجاه في حال وقع؟

النظام الإيراني الحالي (الملالي)، لم يعد صالحاً لإدارة الدولة الإيرانية، وشرعيته تتآكل بشكل متسارع، ورغم أنه مهيئ للسقوط، إلا أن ذلك لا يمنع استمراره على هذه الشاكلة لسنوات. بالنسبة لي كمراقب شرق أوسطي، أخشى من الانهيار المفاجئ في دولة بحجم وقوة إيران من جهة، عدا عن عدم ثقتي بأي نظام إيراني لاحق، فالإشكال الذي أراه هو إشكال في العقيدة الفارسية ذاتها، وإلى الآن لم يبدِ منافسو نظام ملالي أية بوادر حقيقية للتخلي عن النهج الامبريالي في العالم العربي، أو تجاوز اللحظة التاريخية التي علِق فيها الفرس قبل 15 قرناً.

في حال حصول تغيير، وهو وراد، أعتقد أن القوى العسكرية ستبقى مصانة وإن تغير ولاؤها، بمعنى أن الحرس الثوري سيحافظ على مسار التغيير، ولن يسمح بتفكيك الدولة، ما لم تظهر متغيرات جديدة. بالأصل، لا يوجد في إيران ولا خارجها معارضة قادرة على مواجهة الحرس الثوري، وإن كانت حظوظ مجاهدي خلق أكثر من سواها من المعارضات الإيرانية، لكن لا أظن أنها ستكون بمعزل عن الحرس الثوري. ما أخشاه، هو وصول جهة معارضة مقبولة غربياً إلى السلطة في طهران، ذات توجه قومي فارسي، تحتفظ بالمشروع الإيراني شرق الأوسطي، وبمعرفة نووية واسعة، وبوكلاء متنوعين، حينها علينا أن نتحضر لموجة جديدة من المد الإيراني في العالم العربي، موجة لا تهدد مصالح الغرب، وتتفق مع إسرائيل.



النص منشور لأول مرة في مجلة شؤون إيرانية، العدد 19، يناير/كانون الثاني 2023.

 

ومنشور في المكتب الاستشاري لشؤون الشرق الأوسط