الموجة الإيرانية الرابعة: الحدود والأدوات


 

يشهد الشرق الأوسط مساعٍ إقليمية لتبريد الأزمات والنزاعات البينية، بعد عقد منهك من حروب الوكالة/الحروب الهجينة، التي قادت إلى تدمير عدة دول عربية. يتزامن هذا التبريد مع اضطراب متنامٍ في النظام الدولي، ما يشير إلى أن عملية التبريد لن تتعدى كونها عملية التقاط أنفاس للقوى المتنازعة في الشرق الأوسط، قبل البدء بجولة جديدة من النزاعات الإقليمية انعكاساً لتطور الأزمات والنزاعات الدولية. وخصوصاً أن الأزمات شرق الأوسطية أزمات بنيوية مستعصية لا يمتلك أي طرف القدرة/الرغبة على حلها، بغض النظر عن الطروحات الإقليمية غير الواقعية حول حلول مقترحة.

في قلب هذه النزاعات، تبرز إيران، باعتبارها الدولة الأكثر عدوانية في الشرق الأوسط، على الأقل منذ مطلع العقد الماضي، عبر نشاط تدخلي/عدواني ذي سمة تبشيرية وتاريخية وقومية-مذهبية، يعود إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، في امتداد استراتيجي طويل الأمد، وفق مراحل متتالية تراعي الظرف الإقليمي والدولي. هذه الاستراتيجية الإيرانية المتدرجة والمستمرة سمحت لإيران بعد أربعة عقود من الاشتغال الإقليمي، أن تفرض مصالحها وهيمنتها في العراق وسورية ولبنان واليمن، مع ارتباطات مصلحية ومذهبية دون-دولتية أوسع من ذلك.

 

موجات النفوذ الإيراني في العالم العربي

يمكن تقسيم مراحل النفوذ الإيراني في العالم العربي إلى ثلاث موجات رئيسة، كانت الأولى متزامنة مع حرب الخليج الأولى (1980-1988)، والتي تميزت بفهم عربي للنزاع على أنه نزاع قومي عربي-فارسي، وإن كانت إيران قد منيت بخسائر فادحة (تجرع السم) في الجبهة العراقية (كما تكبدها العراق)، إلا أنها استطاعت أن تفرض وجودها المذهبي في لبنان عبر حزب الله، وأن تكون حاضرة في الحسابات الإقليمية الإسرائيلية. ونتيجة إخفاق الجولة الإيرانية الأولى في العراق، فقد احتاجت إيران فترة من التسكين/التبريد خلال عقد التسعينيات بالتزامن مع فترة الانتقال من النزاع الدولي إلى مرحلة القطبية الأحادية المرنة المنفتحة عالمياً (تبريد متوافق مع التبريد الدولي).

ما إن أعادت إيران ترتيب أولوياتها، حتى اندفعت نحو جولة جديدة من التغلغل في العالم العربي، بالتزامن مع الغزو الأمريكي للعراق، واستطاعت إيران في هذه الجولة الثانية تثبيت حضورها في العراق بشكل غير مباشر (عبر الوكلاء/الميليشيات المحلية، والارتباط المذهبي)، أو بشكل مباشر عبر إشراف قادة الحرس الثوري/فيلق القدس على تثبيت التغلغل الإيراني في العراق. واشتغلت جنباً إلى جنب بالتنافس الاحتلال الأمريكي، حتى باتت الفاعل الأكثر أهمية في العراق. فيما كانت تؤسس لمرحلة ما بعد العراق عبر ربط السياسات السورية بعملية صنع القرار في طهران، فيما كان حزب الله يعمل على الاستفراد بالمشهد اللبناني (بعد اغتيال العقبة الكبرى: رفيق الحريري)، فيما كان نظيره الحوثي يشتغل (عبر حروب ستة) على تحضير اليمن لفوضى التدخل الإيراني. وفي نهاية العقد الأول من هذا القرن، كانت إيران قد أنجزت تقدماً ملحوظاً في عملية التغلغل تلك، بينما لم تتجاوز استراتيجيات الردع العربية حدود التحذير من "الهلال الشيعي"، فيما نحا الفهم العربي للنزاع باتجاه المزج بين البعدين القومي والمذهبي.

في المرحلة ما بين الموجة الثانية والثالثة، شهدت المنطقة نوعاً من التبريد بين إيران والقوى العربية التي خرجت سالمة من الموجتين السابقتين (دول الخليج ومصر)، لكن هذا التبريد قام على سياسة الإقرار بالأمر الواقع، أي الإقرار بأن إيران أصبحت فاعلاً رئيساً في العراق ولبنان.

بدورها، كانت حراكات الشوارع العربية، التي ستقود إلى فوضى طويلة الأمد في عدة دول عربية، بيئة مناسبة لإطلاق الموجة الإيرانية الثالثة. فمنذ أن رأى خامنئي أن "الثورات العربية" هي امتداد للثورة الإيرانية، كانت إيران تعمل على تكرار مشهدها العراقي في سورية واليمن والبحرين. وتتطلع إلى مد نفوذها إلى مصر وشمال إفريقيا. لم تقد الموجة الثالثة إلى تحقيق كل المناط بها، لكنها جعلت إيران على اتصال جغرافي مباشر بالبحر المتوسط (العراق، سورية، لبنان، غزة)، وجعلتها حاضرة في سياسات البحر الأحمر (اليمن)، في وقت هي قريبة للغاية من أن تصبح الدولة النووية الثانية في الشرق الأوسط. فيما أخفقت في البحرين وإفريقيا العربية.

ونتيجة نتيجة تغير الفاعلين المواجهين لإيران، تغير الفهم العربي كذلك لطبيعة النزاع العربي-الإيراني، بحيث تم حصره في كثير من الأحيان في بعده المذهبي (صراع سني-شيعي)، ما أوحى أن النزاعات في هي نزاعات دينية على غرار نزاعات العصور الوسطى في أوروبا. وحيث أن محرك الاستراتيجية الإيرانية هو بعد قومي بالأساس، فقد وجدت في مذهبة النزاع، أداة إضافية لتعزيز تدخلها "الحمائي" للأقليات الشيعية في العالم العربي.

 

الإقرار بالأمر الواقع

إن عملية التطبيع/المصالحة الإيرانية-العربية الحالية، هي مصالحة قائمة على الإقرار بمعطيات الأمر الواقع، والذي يعني التسليم بهيمنة إيران على العراق وسورية ولبنان واليمن، أو على غالبية هذه الدول من جهة. والتسليم بحضور إيران العسكري إقليمياً واعتبارها محدداً رئيساً لمستقبل الشرق الأوسط وسياساته الأمنية. بل والتسليم بمنهج التحريض الإثنو-مذهبي الإيراني في الشرق الأوسط، والذي قاد إلى عمليات تغيير ديموغرافية واسعة في الدول المستهدفة، أدت إلى طرد الملايين من السكان العرب من المنطقة، وتوطين الميليشيات الإيرانية والشيعية فيها. هذا الإقرار، يؤكد فكرة استعصاء الأزمات شرق الأوسطية واستحالة حلها. أي أنها مصالحة أتت نتيجة نجاح الموجة الثالثة الإيرانية، وإخفاق الاستراتيجيات العسكرية العربية في مواجهة إيران خلال العقد الماضي، وإقرار الأطراف العربية المعنية بعدم قدرتها على الاستمرار في منافسة إيران إقليمياً.

إيران بدورها، تحتاج حالياً إلى عملية تبريد الأزمات هذه، نتيجة جملة أسباب، على رأسها إعادة ترتيب أولوياتها وخصوصاً بعد عقد منهك مالياً وعسكرياً وتنموياً. فمن المتوقع أن تحتاج إيران إلى عدة سنوات، تتفاوض فيها مع القوى الغربية، بغية تخفيف أكبر قدر من العقوبات، للحصول على عوائد مالية مجمدة أو مبيعات نفط دولية ترفد الاقتصاد المحلي واقتصاد التدخل الإقليمي (تبيع إيران حالياً قرابة مليون ونصل المليون برميل يومياً). وخصوصاً أن إيران تمر بأزمة داخلية حادة تتعلق بشرعية النظام فيها.

ربما يحمل التغيير في منصب المرشد الأعلى، وتخفيف العقوبات الدولية، والانفتاح الاقتصادي المرافق ذلك، مع تغييرات في السياسات المحلية، فرصة لإعادة ترميم شرعية النظام الإيراني قبل العودة إلى استكمال استراتيجية الهيمنة الإقليمية. إلى حين إنجاز هذه الأولويات، فقد جمدت إيران التنافس الإقليمي عند الحدود التي هيمنت عليها، وبذلك تضمن الانطلاق منها وليس العودة إلى نقطة الصفر.

أي أنه بمجرد إعادة ترتيب أولوياتها، فإن إيران جاهزة لإطلاق موجة رابعة من التغلغل في العالم العربي، عبر الأدوات التالية:

-       قوة عسكرية (مدعومة بعتبة نووية، أو مظلة نووية).

-       ميليشيات شيعية حاضرة في كثير من أرجاء الشرق الأوسط.

-       امتداد ديموغرافي مذهبي أقلوي يتطلع إلى إيران باعتبارها "الراعي السياسي العضوي"، واستمرار عمليات التبشير المذهبي.

-       استمرار حالة الفوضى وربما توسعها في الشرق الأوسط، والتي تشكل بيئة جد مناسبة للتدخل الخارجي (كما يحصل في السودان حالياً).

-       انسحاب إقليمي عربي عن ردع هذا التمدد، وإقرار بالهيمنة الإيرانية على "الهلال الشيعي" واليمن.

-       تشبيك مصالح عربية-إيرانية، يدفع دولاً عربية إلى مزيد من التقارب مع إيران، وعدم الانخراط في أية سياسات ردع.

-       عدم وجود مفهوم عربي مشترك للأمن القومي وللتهديدات المحيطة بالإقليم.

-       بل وجود أنظمة عربية أصبحت تحت نفوذ إيران مباشر.

-       ارتباط قوى حزبية ونخبوية عربية بالسياسات الإيرانية.

-       تغييب القوى البشرية العربية الفاعلة التي كانت سداً في وجه المشروع الإيراني (قتل، تهجير، اعتقال، تدمير مقومات المواجهة، تغيير ديموغرافي، ... إلخ).

تبقى الإشكالية هي رسم الحدود الجغرافية للموجة الرابعة، والتي ستكون باتجاهات عدة: باتجاه المجتمعات التي تضم أقليات شيعية نشطة و"مضطهدة"، وباتجاه دول الفوضى/الدول الفاشلة، وباتجاه المناطق التي أخفقت إيران فيها سابقاً.

عدا عن أن إيران قد تجد في المتغيرات الدولية، سنداً لموجتها القادمة، فالنظام الدولي لم يعد نظاماً أمريكياً صرفاً (أحادي القطبية)، وهو متجه إلى مزيد من التأزم في السنوات القادمة، بما ينعكس على كثير من الأقاليم، وفي مقدمتها الشرق الأوسط. أي أن اشتداد تأزم النظام الدولي، سيدفع الشرق الأوسط لأن يشهد أزمات جديدة أو متجددة، فلطالما كان الإقليم مرآة لأزمات الدولي، بما يسمح بموجة إيرانية رابعة من التغلغل في العالم العربي.

 

د. عبد القادر نعناع

رئيس المكتب الاستشاري لشؤون الشرق الأوسط

 

 

هذه المادة منشورة على موقع المكتب الاستشاري لشؤون الشرق الأوسط

وهي منشورة أيضاً في العدد 25، أغسطس 2023، مجلة شؤون إيرانية